الأحد، 17 يونيو 2018

أثر سياسة التمكين على الاقتصاد

          التمكين في الاسلام يشمل جميع المسلمين وشتى المجالات، لكن الغريب ان المصطلح في السودان استخدم في غير معناه سواءً من حيث مفهومه في الاسلام او مفهومه في علم الادارة، ايضا استخدم بطريقة توحى بأن المسلمين فقط من ينتسبون لفكر معين وحزب معين؛ والتمكين ليس غايته الدنيا أو الثروة او المناصب انما اقامة الدين. اما من يقول ان هناك تفسير سياسي لمنهج التمكين يكون اما يتحدث عن دولة غير اسلامية أو فسره لتحقيق مكاسب سياسية ودنيوية وقطعاً هذا يتناقض مع المفهوم الدلالي في القران الكريم؛ كما قال الدكتور صبري محمد خليل في مقالة منشورة على موقعه الرسمي، علماً بان المفهوم الدلالي نفسه متعدد لتحقيق غايات متعددة.
          وفي علم الادارة يعتبر مصطلح التمكين Empowerment من المصطلحات الحديثة، وهو لا يتعدى كونه منح الموظفين حرية من خلال العمل لتوسيع نطاق تفويض السلطة، وزيادة المشاركة الفاعلة في اتخاذ القرارات، والتحفيز الذاتي، والتأكيد على اهمية بيئة العمل وبناء الثقة بين الادارة والعاملين مما يؤدي الي تحفيز العاملين ابداعياً. أما من ناحية اهدافه فهو يهدف الي منح المنظمات قدرة ومرونة في الاستجابة لمتغيرات البيئة المحيطة بالمنظمة، والتخلص من طرق الأداء التقليدية، كما يهدف الي الغلب على البيروقراطية من خلال الاندماج الوظيفي؛ لذلك التمكين الوظيفي يؤثر على نجاح المنظمات ويعزز استمرارها ووجودها.
          الآن دعونا نلقي نظرة على سياسة التمكين التي اتبعتها الحكومة في بداية عهدها وأثرها الادارة والاقتصادي، فهذه السياسة (التمكينيه) ان جاز التعبير لم يكن هدفها ادارى او ديني، لكن كان هدفها حزبي بإحلال اصحاب الولاء للتنظيم مكان الكفاءات الموجودة من خلال قانون الصالح العام دون مراعاة للكفاءة المهنية والخبرة، واتبعت هذه السياسة من اجل ابعاد المعارضين للتنظيم، او من يظن انهم معارضين أو المشاكسين الذين يعلون ضوابط ونظم العمل والقوانين على الاوامر السياسية التنظيمية، وفيما بعد استخدمت هذه السياسة حتى ضد ابناء التنظيم المشاكسين. وهذا الاحلال خلق ارباك على مستوى الاداء العام للخدمة المدنية وكفاءتها، كما مكن لأناس عديمي الخبرة والكفاءة ولا يخشون القانون بسبب السند التنظيمي الذى يجدونه، وهذا مكن للفساد الاداري والمالي داخل منظومة الخدمة المدنية مما أدى الي عجزها عن اداء دورها بل ضرب المنظومة القيمية والاخلاقية، لذلك عجزت عن القيام بدورها في تحقيق التنمية والنهوض بالسودان، من جانب آخر نرى ان الفساد الحادث كان مدخله التمكين الذى جلب أناس لا يهابون القانون كما ذكرنا ولا يخافون من العقاب، ويعملون بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة، كما ان هذا التمكين جلب مفسدين اظهروا ولائهم الى الانقاذ وبعد ان تم استيعابهم وتعيينهم لوثوا بصورة متعمدة بالفساد حتى يسهل قيادهم لتنفيذ مخالفات وفساد لصالح آخرين، لذلك اختلت اخلاقيات الادارة نتيجة لاختلال قواعد والمبادئ التي تحدد السلوك القويم والسلوك الخاطئ واختل بالتالي القرار النموذجي الذى يأخذ الاعتبارات المادية والاخلاقية عند اتخاذه، حيث تحول القرار الي قرار ذو اتجاهات حزبية ومادية لا تضع في اعتبارها الاعتبارات الاخلاقية المتعلقة بالبعد الخارجي المتمثل في المواطن؛ وانعدمت الشفافية بمفهومها الاداري فلا مساءلة ولا معلومات ولا اخلاقيات. وأذكر هنا مقولة قالها احد كبار المنظرين الذى قيل له أن فلاناً يعاكس ولا ينقاد فقال لهم (ارموا له الشطر).
          هذا النهج مكن لكثير من المفسدين ومكن للفساد حتى خارج منظومة الخدمة المدنية بالاستفادة من التسهيلات التي يوفرها لهم الموظفون الذين تم تمكينهم، واذكر هنا قصة لاحد الذين تقدموا من خلال مناقصة لتنفيذ عقد واذا به يتصل به موظف ليقول له أن هذا الذى تقدمت به قليل ارفع السعر الي ثلاث اضعاف ليسهل الامر من ثم يطالب الموظف بنسبة من قيمة مقدرة، وآخر مكن احدى الشركات من الحصول على مناقصات بعد اتفاقه معهم على نسبة من الارباح، وفي قصة حديثة متعلقة بعقود نظافة الخرطوم طلب الموظف وآخر معه نسبة 20 في المائة من اجمالي قيمة العقد لتسهيل الامور رغم ان هذه الشركة الاجنبية قدمت تخفيضات مقدرة للجانب السوداني. ونلاحظ أنه حدث تمكين داخل الخدمة المدنية وتمكين آخر في مجال المال والتجارة والأعمال والمصرفية منع آخرين من اخذ فرص عادلة في السوق ادى الي افلاسهم وآخرين اقعدتهم عن تطوير اعمالهم التجارية. وهذا قطعا أثر على مسيرة الاقتصاد السوداني وعطله واكسب السودان سمعة سيئة جدا انعكست على تصنيفه الائتماني الذى يعتبر مدخلاً للحصول على القروض وحتى الهبات.
          ومن خلال مبدا التمكين وبدلاً من أن يكون هناك اطار أخلاقي للالتزام بالقيم ظهر اطار التزام بمبادئ الحزب والتنظيم الذى لا شك فيه الانانية والايثار، وهذا الاطار أثر على الانفاق الرشيد والترشيد في المصروفات العامة التي تستقطع الكثير من موازنة الدولة. ان الفساد الاداري في القطاع الحكومي تطور واصبح ظاهرة معقدة واسعة الانتشار ومتعددة الاساليب والقدرات، وخلق اتحاد بين دواوين الدولة والقطاع الخاص والقطاع الخاص الحكومي اهدر موارد الدولة وعطل خطط التنمية واضاع حقوق المواطنين، وأثر على الاقتصاد ككل، وضرب صميم أخلاق المجتمع في مقتل.
          ان سياسة التمكين السياسي اصبحت الادارة ذات بمفهوم ضيق طويل الامد وابتعدت عن المفهوم الشامل طويل الامد واصبحت الوحدات الحكومية ومؤسسات الدولة ليست ذات أهداف اجتماعية وانما اصبحت وحدات ذات أهداف ضيقة تستفيد منها فئة معينة، واصبح الاقتصاد لا يقوم على معايير اقتصادية مقبولة وانما حسب مسكنات وتجارب، وبذلك تشكل ما يعرف بالقانون الحديدي للمؤسسات وفيه يهتم المسيطرون على المؤسسات بقوتهم ضمن المؤسسة بدلا من قوة المؤسسة نفسها. لذلك شاعت المعايير المادية بلغة النقود على حساب المعايير الاخلاقية بلغة القيم والمبادئ.

الأربعاء، 13 يونيو 2018

أثر الفساد الاداري على التنمية الاقتصادية والاجتماعية

          تزايد الفساد الاداري في الآونة الاخير واصبح حديث المجالس والمنتديات وتناوله كثير من الكتاب والائمة من على منابر المساجد، على اعتبار انه ظاهرة خطيرة لها تأثير بالغ الضرر على المجتمع والنشاط الاقتصادي والتنموي، ورغم ان انتشاره ليس حصرا على السودان بل هو ظاهرة منتشرة في كثير من الدول النامية مع اختلاف مستوياته واختلاف الاسس الفكرية للتنظيمات السياسية والاخلاقية التي تحكم، لكن اذا نظرنا الي السودان نجد انه ارتبط بالتنظيم السياسي الحاكم بصورة اساسية ومكن من انتشاره وساعد على اتساع رقعته، كما ارتبط بالمستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للموظف العام. ومعظم الدراسات تشير الي أن الفساد الإداري في الدول النامية يصحب عادة عمليات التنمية الاقتصادية؛ وفي السودان أخذت هذه الظاهرة بالظهور عقب انتهاء سنين الشدة وظهور ايرادات البترول التي غذت خزينة الدولة المتعطشة للمال، ومع ازدياد مصروفات الدولة وبداية الحصار الاقتصادي.
          تنبع اهمية محاربة الفساد الاداري ومعالجته من اثره المدمر على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأثره على ثقة المؤسسات الدولية المالية والمؤسسات المانحة في الحكومة وكيفية ادارتها للموارد. ومن اهم اساليب معالجة الفساد الاداري معالجة أسبابه الرئيسة واعطاء مكافحة اولوية قصوى، لكن الحكومة اهتمت بالأجهزة الامنية التي تحافظ على النظام، وسياسة التمكين، ولم تهتم بالقضاء على الفساد الإداري لأنها لاعب رئيس في منظومة الفساد الاداري.
          اتجهت معظم الدارسات الفكرية الحديثة في العلوم الادارية والاجتماعية الي دراسة الظروف الاقتصادية والاجتماعية لتفسير الفساد الاداري، والظروف السياسية والثقافية والبيئة المحيطة بالمجتمع الذى ينتشر فيه الفساد، ومدى تأثير ذلك على سلوك الافراد الذين يسعون الى تحقيق اهداف مشروعة خاصة بهم لكن بوسائل غير مشروعة؛ وفي السودان أرى ان العوامل السياسية من خلال سيطرة التنظيم على مفاصل الدولة كانت ابرز عوامل انتشار وظهور الفساد الإداري، من خلال سيطرة منسوبي التنظيم على الوظائف العامة نتيجة لسياسة التمكين، ومن ثم استغلال النفوذ التنظيمي وتمكين المنتفعين الذين لا ينتمون للتنظيم سواء من اجل الترضيات أو لأنه لديهم قابلية للانغماس في الفساد عكس افراد التنظيم الصادقين بالتالي انتشرت الرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ ومخالفة الانظمة واللوائح والقوانين. هذا يعنى ان التنظيم هو الحاضن الاوحد لمنظومة الفساد الاداري ومظاهره، وبشكل أقل المجتمع بسبب الفقر وبسبب الحاجة الى قضاء حوائجه التي لن تقضى إلا بالرشوة. وهذه الظاهرة الخطيرة كان لها الاثر البالغ في تهديد والقضاء على الكيان الإداري والاقتصادي ويتوقع أن تؤثر في المستقبل على الكيان السياسي ككل وعلى التنظيم الحاكم. وبما أننا ذكرنا أن اساس مدخل هذا الفساد كانت الوظيفة العامة بسبب الاخلال بالضوابط الادارية والقانونية المؤهلة لشغل الوظيفة العامة، ليس من خلال التحايل على القوانين والانظمة لكن من خلال القرارات السياسية ذات الطابع الاداري، والامثلة على ذلك كثيرة جداً في مجال الترقيات والترضيات وانشاء وتعطيل ادارات بغرض توظيف منتسبي التنظيم أو افراغها لتعطيلها ومنعها من تحقيق اهداف وجودها.
      الامر الخطير في السودان هو الرفض والانكار للاتهامات والمزاعم بوجود الفساد الإداري رغم المظاهر الواضحة والدالة عليه، حيث تتعامل الحكومة معها على اساس انها مزاعم من المعارضين وهى محض افتراءات، بل تتعامل مع هذه المزاعم على اساس انها تعدٍ على خصوصيتها؛ بدلاً من الاعتراف ودراسة الظاهرة وتشخيصها ومعرفة اسبابها من اجل ايجاد الحلول للحد منها والقضاء عليها، بل تزعم أيضا أن اصحاب الفساد ليسوا من افراد تنظيمها بل هم من خارج التنظيم تم الاستعانة بهم لأغراض معينة. لكن ندرك أن هناك علاقة قوية بين التغيرات السياسية والتنظيمية بكم ونوع الفساد الاداري المنتشر والذى يحميه التنظيم، فكم من قرارات تتخذ خارج الاطر الادارية والتنظيمية التي تحكم دولاب العمل وما على الادارة أو الوزارة إلا التنفيذ، لذلك استخدم أفراد التنظيم الفساد الاداري للتأثير على النشاطات البيروقراطية من خلال اسهام المتنفذين من افراد التنظيم في عملية اتخاذ القرارات الادارية داخل مؤسسات الدولة، ايضاً تجلى الفساد الاداري في سوء استخدام المال العام والملكية العامة، وسوء استخدام السلطة ومخالفة اسس واطر ومعايير المسئولية تجاه الدولة لصالح التنظيم، وتنشأ عملية الفساد بين الموظف وبين طرف خارجي يمثل التنظيم والسلطة الآمرة وذلك من خلال التضحية بالمصلحة العامة لصالح مصلحة التنظيم.   
          وعددت الدراسات الاسباب المؤدية للفساد الاداري من أوجه عدة نراها ماثلة امامنا في السودان وهي، الصفات الشخصية ترتبط بالتنظيم، الانتقال من مرحلة الفقر الى الغنى، الافتقار الى الوازع الديني والاخلاقي، العقوبات المتهاونة، تأثير القيم التنظيمية وطغيانها على المصلحة العامة، تهاون المجتمع مع المرتشين والرشوة عموماً لقضاء مصالحهم المتعطلة بدون سبب وغياب السلطة العليا وبعدها عن مشاكل الناس.
          وحتى يمكن ان تنجح الحكومة في ايقاف الفساد يجب عليها ابعاد سطوة التنظيم عن دولاب العمل ومنع تدخله في شأن المؤسسات العامة، واخذ ما تنشره وسائل الاعلام باعتبارها سلط رابعة على محمل الجد، واطلاق يد الاعلام لكشف الفساد، ونذكر هنا ما نشرته صحيفة الصيحة عن فساد متعلق بحيازة اراضٍ سكنية، وبدلاً من محاسبة المتهم الذى يتملك الان مكتب عقارات تم محاسبة صحيفة الصيحة وايقافها لزمن طويل جداً، تفعيل القوانين والتشريعات الخاصة بالفساد الإداري وتطبيقها على الكل بصورة عادلة.
          يمكن ان نقول ان الفساد في السودان يتمثل في تعريف روبرت تلمان الذى قال" الفساد الذى يسود في بيئة تساند فيها السياسة العامة للحكومة نظاماً بيروقراطياً، وتتم المعاملات في سرية [انعدام الشفافية] ولا تفرض جزاءات رسمية كالرشوة وتوظيف الاقارب [افراد التنظيم] من غير ذوي المؤهلات والخبرات وما الي ذلك". ان الفساد الاداري يؤدي الي تصدع النسيج الاجتماعي، وانهياراً اقتصادياً مما يحدث خللاً داخل الدولة يؤدي بها الى الهلاك، " وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون". صدق الله العظيم

الخميس، 1 فبراير 2018

هل قيمة الجنيه السوداني حقيقية وعادلة ؟

          اقتصاديا يتناسب دخل الفرد طرديا مع طلب الافراد على السلع والخدمات فترتفع نتيجة لذلك أسعار السلع والخدمات، بينما عند انخفاض الدخل فإن الطلب على السلع والخدمات سوف ينخفض وبذلك تنخفض اسعارها، وعلى العكس من ذلك في السودان فقيمة النقود تتناقص وبالتالي تنخفض قيمة الجنيه الحقيقية ولكن في نفس الوقت ترتفع اسعار السلع والخدمات ليس بطلب ولكن لانخفاض سعر صرف الجنيه امام الدولار. لذلك نجد أن دخل الفرد يتناقص عكسيا مع ارتفاع سعر صرف الدولار، وانخفاض قيمة العملة يحدث عندما تعاني العملة من انخفاض سعر الصرف بالنسبة لعملة أو مجموعة عملات مرجعية؛ وهذا الانخفاض لا يتوقف فقط على احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي، أيضا بسبب السياسة النقدية، وكون الدولار اصبح سلعة من السلع الرائجة التي يسعى الكل ويتهافت للحصول عليها ليس سماسرة الصرف وهم الوسطاء النشطون الذين على علم بالمشترين البائعين للدولار، ففيما مضى كان الشخص يبحث عن التجار في صالات واضابير السوق الافرنجي بالخرطوم، اما الآن تجد المشترى بالقرب منك في كل مكان جارك، صديقك، قريبك، وصاحب الدكان، حتى بائعة التسالي والفول، وصاحب العربة التي يجرها الحصان، ليس تقليلا من شأنهم ولكن لبساطة حياتهم ومتطلباتها. لان دخلهم بالجنيهات لا يمكن المحافظة عليه من حيث القيمة إلا اذا تم تحويله الى دولار، وذلك للتغلب على متوالية سعر صرف الدولار المتصاعدة.
          وحتى يتضح الأمر سوف نلجأ الى مصطلح القيمة الحقيقية والمفاهيم الاقتصادية المختلفة للدخل. فالقيمة الحقيقية احد مفاهيم القيمة العادلة وهو يرمز إلى قيمة الشركة وجوانب عملها وأصولها الملموسة وغير الملموسة خلال مدى معين. وبصورة أوضح مثلا يختلف سعر العملة الاسمية عن التمثيل المثالي كقيمة مجردة لإتمام عمليات التبادل المادي (الحقيقي)، والقيمة الاسمية من الناحية الاقتصادية هي التي يعبر عنها وفق شروط نقدية اسمية ثابتة وهي وحدات النقد (العملة) في سنة معينة أو عدد من السنوات، ولكن القيمة الحقيقية تضبط القيمة الاسمية للتخلص من التغير في مستوى الأسعار بمرور الوقت. فمثلا قد تحدث تغيرات في القيمة الاسمية لبعض السلع والخدمات بمرور الزمن نظرا للتغير في الكمية والأسعار المرتبطة بالسلع، ولكن يعكس التغير في القيمة الحقيقية التغير في الكميات. والقيمة الحقيقية هي مقياس لانخفاض القوة الشرائية للنقود. والقيمة الحقيقية هي القيمة السوقية العادلة (في حالة الدخل تمثل القيمة السلع والخدمات التي يمكن للفرد الحصول عليها من النقود التي لديه). أما القيمة التي تبنتها مدرسة الاقتصاد الكلاسيكي الحديث، قدم فشر وهو اقتصادي امريكي؛ منهجا يحتوى على ثلاثة مفاهيم رئيسة للدخل الخاص بالفرد وتشمل هذه المفاهيم، مفهوم الدخل المعنوي ويمثل الإشباع الذي يحصل عليه الفرد خلال فترة معينة، ومفهوم الدخل الحقيقي ويمثل ذلك القدر من السلع والخدمات التي يستهلكها الفرد خلال فترة ما بغرض إشباع حاجاته المختلفة، ومفهوم الدخل النقدي ويتمثل في التدفقات النقدية الصافية التي يحصل عليها الفرد خلال الفترة لمقابلة احتياجات.
    ويعنى المفهوم المعنوي للدخل بتحديد درجة الرفاهية التي يحصل عليها الفرد نتيجة لإشباع حاجاته خلال الفترة، وهذا المفهوم غير قابل للقياس المباشر وذلك لتأثر درجة الإشباع بعوامل كثيرة منها مستوى الدخل، بينما نجد أن الدخل الحقيقي يركز على الأحداث الخاصة بالفترة وهو بذلك يمثل الجانب المادي للإشباع الذي يحصل عليه الفرد. الدخل الحقيقي مقياس غير مباشر وتقريبي للدخل المعنوي. ويتم قياس الدخل الحقيقي عن طريق تحديد التكلفة المعيشية الخاصة بالفرد خلال فترة معينة؛ وهي تمثل تكاليف لأغراض قياس الدخل القيمة النقدية للسلع والخدمات خلال فترة معينة. من الواضح أن هذه المفاهيم ما هي إلا مراحل متعاقبة لنفس الظاهرة، فالدخل المعنوي من الناحية الفكرية هو الأساس بينما الدخل الحقيقي يمثل التعبير المادي لإشباع الحاجات ومرحلة ضرورية لأغراض القياس، والدخل النقدي يمثل الجانب التمويلي لتكاليف المعيشة. ويرى فيشر أن الدخل النقدي هو أكثر مفاهيم الدخل شيوعا إلا أن الدخل الحقيقي يعتبر هو المفهوم الملائم لأغراض المحاسبة. عموما يتفق الاقتصاديون على أن الهدف من قياس الدخل هو تحديد التحسن الذي طرأ على المشروع خلال فترة زمنية معينة، وهم بذلك ركزوا على الدخل الحقيقي، والمفهوم الاقتصادي للدخل يرجع تعريفه الي هكس الذى قال " أن الغرض من حساب الدخل من الناحية العملية هو إعطاء الأفراد مؤشرا عن المقدار الذي يمكنهم استهلاكه دون التسبب في جلب الفقر لهم، ووفقا لهذه الفكرة، يبدو من الضروري تعريف دخل المرء على أنه القيمة القصوى التي يمكنه استهلاكها خلال اسبوع مع البقاء عند نفس مستوى الثروة في نهاية الأسبوع كما كان في بدايته". معنى ذلك اننا في السودان يجلب إلينا الفقر يومياً؛ لأنه يوميا لن تكون في نفس مستوى الثروة بسبب انخفاض قيمة ما لديك من جنيهات.
    بهذا المفهوم اذا لا قيمة للجنيه يعتد بها وحتى تصبح قيمته عادلة لابد أن تقوم الدولة واصحاب العمل بتعديل أجر العامل دورياً مثلاً كل شهر أو شهرين بنسبة تعادل انخفاض قيمة العملة وذلك في حالة توقع التضخم حيث يمكن التحوط عند التعاقد بإجراء الدين بغير العملة المتوقع هبوطها. كأن يتفق العامل مع صاحب العمل على أن يعطيه زيادة على أجره كل آخر شهر بنسبة 3 في المائة أو 5 في المائة أو نحو ذلك من أجل المحافظة على أجر العامل من انخفاض قوته الشرائية، ويسمى هذا الاجراء بالربط القياسي للأجور.
ان ما تقوم به الحكومة من مراجعة الاجور بغرض زيادتها لا يفي بالغرض مطلقا، فزيادة الاجر لا تعني الوصول الى القيمة الحقيقة والعادلة للنقود، بل هي محاولة لذر الرماد في العيون واقناع اصحاب الدخل المحدود وبطريقة ملتوية أن دخلهم قد زاد، وزيادة الاجور كما ذكرنا في المقدمة تعني زيادة مقابلة في قيم السلع والخدمات. 

السبت، 12 نوفمبر 2011

ليبرالية حمدوك الاقتصادية


ليبرالية حمدوك الاقتصادية

                        د. عمر محجوب الحسين
            الليبرالية السياسية (Liberalism) كما نعرف هي مذهب سياسي يرعى استقلالية السلطة التشريعية والسلطة القضائية عن السلطات التنفيذية والاجرائية؛ والديمقراطية هي التطبيق العملي لفكرة اللبرالية السياسية، نسأل هنا سؤال لماذا وصف حمدوك وطاقمه بأنهم ليبراليون ؟ وباختصار لأنهم يدعون الى التحرر السياسي والاقتصادي. ورغم غموض مصطلح الليبرالية كما يقول دونالد سترومبرج الذى شبهه بمصطلح الرومانسية الذى لا يزال حتى اليوم في حالة من الغموض والابهام.
            الذى يهمنا من ليبرالية حمدوك السياسية هل هي بالضرورة مدخل لإدارة الشأن الاقتصادي ونقصد هنا الليبرالية الاقتصادية ( Economic Liberalism) التي هي مذهب فلسفي يرى انه ليس على الدولة تولى امر الصناعة والاستثمار ولا يحق لها التدخل في العلاقات الاقتصادية، وهذا المعنى هو اطار الليبرالية الكلاسيكية؛ اما الليبرالية المعاصرة مرتبطة بالعولمة من خلال تقليل تدخل الدولة في انتقال المال عبر الحدود للحصول على اعلى ربح، وتحقيق اكبر مصلحة؛ ولدينا مثال على ذلك الولايات المتحدة وحروبها الاقتصادية، واستفرادها بالقرار الاقتصادي العالمي منذ تخليها عن قاعدة الذهب في عام 1971م. وبهذا المفهوم نجد ان الليبرالية الاقتصادية ذات صلة بمفاهيم مثل جعل تدخل الدولة في الحد الادنى، ترك الاقتصاد يعمل بنفسه دون تدخل وتترك الأسواق تضبط نفسها بنفسها, وهذا هو (مذهب الاقتصاد الحر).
            وتحدث الناس عن ليبرالية حمدوك ايضاً بسبب خلفية حمدوك الذى كان مسؤولاً كبيراً في اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة، ووزير المالية البدوي الذى ينتمى الى صندوق النقد الدولي ومدرسة نظرياته الاقتصادية التي تنتمى الى المدرسة الفكرية الليبرالية؛ وكلام حمدوك عن الاستثمار والمستثمرين الاجانب وما قاله حرفياً حول انتقال المال "اذا ما حققت ربحاً وترغب في اعادة ربحك الى الخارج فسوف نكون منفتحين على ذلك", وذكر مسؤول أمريكي في حديث سابق لقناة (الحرة) " نتطلع الى مراجعة تفاصيل هذه الخطة (خطة حمدوك الاقتصادية) ومناقشة المقترحات مع الحكومة السودانية والشركاء الدوليين" وهذا قطعاً لن يكون إلا في اطار المنهج الاقتصادي الليبرالي. نأتي الان الى دراسة المحددات الاجرائية المتعلقة بالفعل الاقتصادي في مشروع البرنامج الاسعافي والسياسات البديلة في جانبه الاقتصادي الذى اعدته مجموعة من الخبراء والباحثين من قوى الحرية والتغيير للعام الاول الانتقالي؛ ففي السياسات المالية النقدية وعمليات الاستيراد، يتم الغاء منشورات بنك السودان المركزي ارقام 7/ 2018 و 12/ 2018 الخاصين بضوابط الاستيراد وتعديلات ضوابط تنظيم الاستيراد وهذا يعنى السماح بالدفع المقدم عند الاستيراد، والسماح بالاستيراد بالموارد الذاتية للعملاء بالنقد الاجنبي، ويعنى السماح للبنوك بتنفيذ عمليات الاستيراد دون موافقة البنك المركزي، وسمح بالاستيراد دون تحويل القيمة (Nil Value) وهذا سوف يحد من سيطرة وتحكم الدولة والرقابة على النقد؛ ايضا جاء من ضمن هذه السياسات التحرير الكامل لسعر صرف الجنيه مقابل العملات الاجنبية، الغاء الدولار الجمركي، تشجيع تجار العملة على فتح صرافات لبيع وشراء العملات الاجنبية، رفع الدعم عن البنزين تدريجياً من السنة الأولى، تتولى جميع الشركات العاملة في توزيع المواد البترولية مسؤولية تمويل استيراد المواد البترولية بالكامل، ومن غريب الامر ما جاء حول توفير مدخلات الانتاج المحلي الآتي  تتولى كل جهة، سواء كانت مصنعا أو مزرعة أو غير ذلك، توفير احتياجاتها من الخارج بتمويل ذاتي بعيدا عن الحكومة وعن طريق الجهاز المصرفي، وهذا تنصل من سياسة دعم الانتاج المحلى والاعتماد على المنتجات المستوردة وهذا استنزاف لموارد الدولة من العملات الاجنبية وهو ظاهر في سياسيه الاستيراد والسياسة المالية والنقدية المزمع اتباعاها، وايضا يجعل الإنتاج غير قادر على تحقيق ايرادات للدولة بحسب ان القطاع ليس لديه القدرة والمرونة في الحصول على قروض من خارج السودان خاصة قطاع الانتاج الزراعي، ايضا اشارات هذه السياسية الى إلغاء تسعير الأدوية بواسطة المجلس القومي للأدوية والسموم مما يجعل الدواء يرتبط بحركة تغير الاسعار دون رقيب، مع إعفاء الشركات المستوردة للأدوية المصنعة من الضرائب والرسوم الحكومية المفروضة على استيراد وتصنيع الأدوية وذلك طوال الفترة الانتقالية، ايضاً ذكر في من هذه السياسة الابتعاد عن أي نوع من التشجيع لزراعة القمح في السودان، حيث أنه ليس للسودان ميزة تفضيلية في زراعة القمح، والأجدى اقتصاديا استيراده وليست زراعته، ويعنى استيراده استنزاف مواردنا من العملة الاجنبية، حرية شركات المطاحن في تحديد سعر بيع الدقيق دون تدخل من الدولة، وتساهم الدولة بإعفاء شركات المطاحن من الضرائب والرسوم الحكومية طوال الفترة الانتقالية، كما يُعفى القمح من الرسوم الجمركية وجميع الرسوم الحكومية، ويعنى ذلك ترك اسعار الدقيق ومنتجاته نهباً لتغيرات اسعار السوق وضمناً رفع الدعم عن سلعة القمح. كل ما جاء بخصوص السياسة المالية والنقدية وسياسة الاستيراد تعتبر سياسات ومفاهيم السوق الحر وبالتالي مفهوم الليبرالية الاقتصادية، وكل هذه السياسية هي سياسات صندوق النقد الدولي المهلكة والتي لم طبقتها دولة إلا وفشلت اقتصادياً.
            ان اهم عيوب نظام السوق الحر الليبرالي، التي تُحدثنا عنها التجارب حول العالم في الدول الفقيرة والنامية، أنه يزيد من أزمات الفئات الفقيرة الاجتماعية، وزيادة الاحتكار من خلال التحكم في القطاعات الاقتصادية المختلفة، والتحكم في اسعار منتجات تلك القطاعات وبالتالي سوء توزيع الدخل بين افراد المجتمع، ونعلم أن قضية عدالة توزيع الدخل والثروة تمثل أحد أركان العدالة والتنمية والحفاظ على الديمقراطية.
            ان السياسات المالية والنقدية وسياسة الاستيراد وتوفير السلع الاساسية الواردة في مشروع البرنامج الاسعافي والسياسات البديلة لقوى الحرية والتغيير يمثل سياسة اقتصادية ليبرالية بامتياز، سوف تتبنى لأجلها الحكومة سياسة السوق الحر ووصفة البنك الدولي التي قال عنها جوزيف ستيجليتز الاقتصادي الأمريكي المعروف والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2001م انها وصفات للخراب الاقتصادي وأن من يدفع ثمنها هم الفقراء، فهل يتبع حمدوك الليبرالية الاقتصادية أم سوف يكتفي بليبراليته السياسية لأجل الشعب وثورته وثقتهم واملهم فيه ؟.

الجمعة، 12 نوفمبر 2010

هل تنهار إمبراطورية الدولار؟

د. عمر محجوب محمد الحسين

هل تنهار إمبراطورية الدولار؟


          دعا روبرت زوليك رئيس البنك الدولي( 1 يوليو 2007 حتى 30 يونيو 2012)، البلدان الكبرى إلى السعي نحو إيجاد  نظام عالمي يضمن العودة لمعيار الذهب (بريتون وودز2)  يحدد عن طريقه أسعار العملات خلفا لنظام (بريتون وودز) لسعر الصرف الثابت المنتهى في عام 1971م، وجاءت هذه الدعوة  قبل انعقاد قمة العشرين التي سوف تناقش ما أصبح يعرف بحرب العملات التي بدأتها اليابان بتحركها الأحادي الذي هدفت من خلاله إلى خفض قيمة الين وإضعافه وتلي ذلك تحركات مشابهة من دول مثل كوريا الجنوبية وكولومبيا وتايلاند مما حدا بوزير مالية البرازيل غوديا مانتيفا حينها بالتصريح بأن العالم يشهد حرب عملات دولية، والآن توجد أزمة قائمة بين الدول الغربية والصين التي تتهم بأنها تجعل سعر اليوان مخفضا بشكل مصطنع. والمتتبع لسياسات الدول النقدية يجد أن حرب العملات ما هي إلا انعكاس للحالة السياسية حيث تلجأ كثيرا الحكومات إلى التدخل في أسواق العملات المحلية عن طريق زيادة المعروض من النقد أو السيولة لتشجيع التجارة وخفض البطالة أو العكس بكبح جماح التضخم بتقليل السيولة النقدية .
          ومعيار الذهب أو غطاء الذهب الدولي كان نظام مالي يتم فيه الاعتماد على معدن الذهب كقاعدة لتحديد قيمة العملة وكانت الحكومات التي تتبع هذه القاعدة تقوم بتحويل أي عملة لديها إلي ذهب بعد تحديد أسعار ثابتة  لشراء وبيع الذهب؛ وأول دولة تبنت هذه السياسة النقدية هي بريطانيا في عام 1821م وتبعها دول غربية بعد ذلك، ولكن تناقص دور الذهب منذ العام 1971م بقيام الولايات المتحدة الأمريكية بفك الارتباط بين الدولار والذهب عام 1971م في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، وذلك بعد طلب الرئيس شارل ديجول استبدال الدولارات الموجودة لدى البنك المركزي الفرنسي بما يعادلها من الذهب . وكانت الدول الأعضاء في صندوق النقد الدولي ولضمان استقرار أسعار صرف عملاتها وافقت بين عامي 1945م- و1971م على اتخاذ الدولار كأساس للمحافظة على هذا الاستقرار. وبذلك كانت الغلبة للدولار بعد أن خرجت الدول الغربية من الحرب العالمية الثانية وهى منهكة اقتصاديا بينما كانت أمريكا  تزداد قوتها الاقتصادية والعسكرية وجبروتها. والغريب أن مفهوم الفائض والعجز في ميزان المدفوعات ينطبق على كل دول العالم عدا الولايات المتحدة الأمريكية حيث لا يعد تحقق فائض في الميزان التجاري الأمريكي دليلا على تحسن في قيمة الدولار بأسواق النقد كما يحدث عادة لبقية عملات العالم؛ كما لا يعنى العجز انخفاض في قيمة الدولار ، والمفارقة الغريبة في الأمر انه باستطاعة الحكومة الأمريكية الإنفاق بسخاء على حروبها وغزواتها الخارجية ويمكن لمستثمريها شراء أصول وحقوق خارج الولايات المتحدة الأمريكية سواء كان هناك عجز أو فائض في الميزان التجاري بمعنى انه تستطيع أمريكا إنفاق واستثمار أموال تفوق بكثير قيمة أي فائض تحققه، ونجد أن استثمار هذا العجز في الحقيقة هو بضائع وخدمات مستوردة بالرغم من بقائها الظاهر خارج الولايات المتحدة الأمريكية، والمستثمرون الأمريكيون يملكون استثمارات خارجية بقيمة 17.6 تريليون دولار حسب إحصاءات 2007م منها ما نسبته 41% أصول مالية في شكل أسهم؛ بينما بلغت الاستثمارات الأجنبية الرسمية والخاصة بأمريكا فقط 3.3 تريليون دولار.و ذكرت وزارة التجارة الأمريكية في تقرير لها أن عجز الميزان التجاري تقلص في سبتمبر2010م بنسبة 5.3% ليصل إلى 44 مليار دولار إلا أن العجز مع الصين اتسع إلى 27.8 مليار دولار في اغسطس2010م بالمقارنة مع عجز 22.1 مليار دولار خلال سبتمبر2009م.
          تركت الإدارة الأمريكية متعمدة سعر صرف  الدولار ينخفض أمام العملات الرئيسية الأخرى لإيجاد ما يسمى بـ(الدولار الضعيف) لتشجيع صادراتها للنفاذ إلى الأسواق العالمية نتيجة لقلة تكاليف الواردات إلى أسواقها وينتج عن ذلك تقليل العجز في الميزان التجاري المتزايد خاصة مع الصين وكوريا واليابان. إذن توظف الإدارة الأمريكية هذا الخفض المدروس والمرشد لتحقيق أهداف اقتصادية وسياسية تخدم مصالحها دون النظر لتأثير ذلك على جملة الأوضاع الاقتصادية العالمية في المدى البعيد أو حتى على اقتصاد أمريكا نفسها و أزمة الرهن العقاري الأمريكي المستمرة كبدت الدولار خسائر إضافية أمام العملات الأخرى بعجز المقترضين عن سداد قروض الرهن العقاري عالية المخاطر وحدوث كساد بالاقتصاد كما حدث بالأسواق المالية الأمريكية. أيضا هذا  الخفض لا يؤثر فقط على الولايات المتحدة الأمريكية فقد يؤدى إلى هروب رؤوس الأموال القادمة إلى أمريكا وهروب رؤوس الأموال الأمريكية إلى الخارج وتراجع أسعار السندات والأسهم مما يؤدى إلى ازدياد التضخم بسبب ارتفاع أسعار المنتجات المستوردة. ولا ننسى أن الولايات المتحدة الأمريكية لجأت إلى رفع سعر الفائدة على الدولار أكثر من 17 مرة منذ 2004م حتى 2006م لتصل إلى ما نسبته 5.25% لمعالجة فجوة الادخار بتشجيع الدول الأجنبية للدخول إلي السوق الأمريكي، كما أن الاقتصاد الأمريكي تراجعت نسبة نمو الناتج المحلى إلى 5.6% في الربع الأول من العام الماضي. وزامة الرهن العقاري الأمريكية جرت العالم وأسواقه المالية إلى اضطراب كبير مما حدا بكثير من البنوك المركزية في عدد من الدول بالتدخل بضخ سيولة في الأسواق لتهدئة الأوضاع وطمأنة المستثمرين. وكما لاحظنا لم يؤدى ذلك المطلوب لجعل الأسواق المالية مستقرة مما دفع بعض الدول التي تمتلك احتياطيات ضخمة من الدولارات إلى تقليل نسبة وجوده لديها ضمن احتياطياتها مما أدى إلى هبوط حصة العملة الأمريكية من مجمل الاحتياطيات الدولية إلى أدنى مستوى منذ العشر سنوات الأخيرة. ورغم أن الدول الأوربية تستفيد من تراجع الدولار نتيجة لانخفاض سعر برميل البترول لكن يكون هناك تأثير سلبي على صادراتها حيث تصبح ذات سعر عالي عند دخولها السوق الأمريكية. ونذكر هنا أن من أهم أسباب ارتفاع أسواق الذهب المتصاعدة انخفاض الدولار حيث سعى المتعاملين الحفاظ على قيمة الذهب الحقيقيه. من الواضح أن التزام السياسة الأمريكية بشعار دولار قوى قد ضعف بعد أن اكتشفوا أن جنى الأرباح والمكاسب لأمريكا يتم عبر انخفاض الدولار وكثي من المحللين يرون أن انخفاض الدولار سوف يستمر حتى تزول أسباب انخفاضه ولا مؤشرات تلوح في الأفق بتدخل بنك الاحتياط المركزي الأمريكي في الوقت الراهن بسبب استفادة أمريكا من هذا الانخفاض.
          فهل دعوة روبرت زوليك لابتداع نظام جديد يقوم على معيار الذهب تجدي نفعا في ظل وجود تلك السياسات الأمريكية الخرقاء على الصعيدين العسكري والاقتصادي، وأغلب الطن أنها لن تجدي لأن أمريكا فقط تسعى إلى الحفاظ على سيطرتها الاقتصادية والعسكرية ولأنه ليس لديها الرغبة الصادقة بشان الجلوس مع الصين كما فعلت مع اليابان عندما كانت هي القوى الاقتصادية الصاعدة في آسيا آنذاك، ودعوة زوليك -الموظف السابق بوزارة الخزانة الأمريكية- للدول الكبرى لمساعدة الدول النامية في مجال تطوير بنياتها التحتية وقطاعاتها الاقتصادية  دعوة يشوبها كثير من الشك والريبة حيث أن تطوير تلك البني التحتية والقطاعات الاقتصادية تصب في المقام الأول في مصلحة أمريكا والدول الغربية.
          أم على الدول التي ترزح تحت عباءة الدولار ووقعت معاهدة بريتون وودز أن يكون لديها القدرة الكافية للتخلي عن الدولار وإعادة النظر فيما جنت أيديهم بتوقيعهم تلك المعاهدة.

أثر خفض قيمة الجنيه على النمو الاقتصادي

د. عمر محجوب محمد الحسين https://sudanile.com/%D8%A3%D8%AB%D8%B1-%D8%AE%D9%81%D8%B6-%D9%82%D9%8A%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D9%8A%...