اقتصاد السودان، غياب التخطيط والتحليلي الاستراتيجي
اعتمد اقتصاد السودان على النشاط الزراعي
والحيواني حيث يعتبر قطاع الزراعة هو الاكبر منذ الاستقلال باستثناء الفترة من
1998-2011م فترة استخراج البترول حتى انفصال جنوب السودان؛ ويشكل هذا القطاع حوالى
45% من الناتج المحلى الاجمالي؛ ورغم أن أحد أهم اسباب تخلى الانجليز عن هذه
المستعمرة في ذلك الوقت تذبذب أسعار
المنتجات الزراعية وتراجع الاهتمام بالقطن كمدخل اساسي في صناعة المنسوجات
والملابس، لكن بعد انتاج اليابانيون للحرير الصناعي ادى ذلك الى انتهاء حقبة
المنسوجات البريطانية التى ازدهرت بفضل جهود السير (رتشارد اركيت) مخترع آلات
الغزل والنسيج، واحد مؤسسي صناعة الغزل والنسيج في بريطانيا؛ ويبدوا أن رواد
الاستقلال لم يفطنوا الى هذه المسألة، وواصلت الحكومة الوطنية بعد الاستعمار النمط
الاستعماري في توسيع مساحات الزراعة المروية الحديثة، والتوسع في الزراعة المطرية
الآلية، لكن دون تقويض الأساس الهيكلي لقطاع الزراعة التقليدية الشاسعة. كانت دولة
ما بعد الاستعمار غير قادرة على إدارة البلاد بسلاسة وبنفس نهج السياسات الاستعمارية غير المباشرة بسبب
السودنة المتعجلة، وشمل ذلك طرق ادارة الضرائب وتحصيلها، وهي بذلك لم تعر اهتماماً
لما خلفه الاستعمار من هياكل ادارية واقتصادية قوية، اهتماماً يحدث نقله نوعية في الاقتصاد
وقطاعاته المختلفة، وبالتالي سارت الحكومة الوطنية علي تركة المستعمر في هذين
المجالين لتجعل من الاستقلال استقلالا شكليا لم يصحبه تغيير اقتصادي او اجتماعي من
حيث النمط او الهيكل؛ ونذكر هنا أن موازنة التنمية لعام 1953-1954 تضمنت مذكرة جاء
فيها تحذير من أن بعض الصعوبات ستؤدي إلى إبطاء تقدم برامج التنمية بشكل كبير،
بسبب نقص الموظفين المؤهلين ليس فقط لأن معظم الوزارات والإدارات تفتقر إلى
الموظفين السودانيين المدربين على جميع المستويات، ولكن لأن العديد من الموظفين
الفنيين الاجانب قد استقالوا، وكان من الصعب استبدالهم، خاصة وأن ادارة الرقابة
المالية كانت تعاني من نقص الكوادر المحاسبية، رغم ان الحكومة بذلت محاولات ناجحة
لتعيين موظفين اجانب من الدول الأوروبية لملء الوظائف التي لم يكن السودانيون بها
ملائمين ومؤهلين، لكن في ذلك الوقت كان يتعين على السودان في المستقبل الاعتماد
على الكوادر الماهرة الاجنبية حتى لا تحدث إعاقة لبرامجه التنموية. اوردنا ذلك
لنعرف حجم المشكلة بالنسبة لنقص الكوادر قبل الاستقلال؛ وجاء الاستقلال ليفرض
برنامج السودنة الذى زاد اعداد الكوادر غير المؤهلة في الوزرات؛ ومدى تأثير ذلك
على خطط وبرامج التنمية وادارة الدولة.
ساهم القطاع غير
التقليدي الحديث في الناتج المحلي الإجمالي بصوره مقدرة، وحقق إنتاج قياسي للقطن
لموسم 1961-1962، وهو رقم قياسي لم يتم تجاوزه بالنسبة للمساحة المزروعة رغم
الزيادة الكبيرة في المساحات المزروعة؛ كان معدل نمو القطاع الحديث حوالي 6 %
سنويا؛ وكان التحسن الحقيقي في الدخل حوالي 4.5 % سنويًا ، وهذا ادى الى زيادة
سنوية في أسعار عوامل الإنتاج بنسبة 1.5 %. لكن كان هذا الإنجاز أقل بكثير من
النمو المرصود للدخل الحقيقي المخطط له البالغ 6.1 % سنويًا للقطاع الحديث خلال
الفترة 1961-1966، وكان أقل من النمو الذي تحقق خلال الفترة 1956-1960م.
سار الاقتصاد دون تخطيط أو تحليل
استراتيجي فعلى وشامل منذ الاستقلال، وتم الاكتفاء بخطط معزولة ذات أهداف مرحلية
وفي الغالب تجبُ ما قبلها؛ فكانت أول خطة للفترة 1960-1970 سميت بالخطة العشرية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولم تحقق هذه
الخطة نجاح حيث لم يتم
الالتزام بالخطة كما أعدت، وتم نفيذ برامج استثمارية ومشروعات لم تكن مدرجة ضمن
الخطة الاصلية؛ وسبب قيام ثورة اكتوبر 1964م؛ ولم توضع خطة بعد الثورة
إلا بعد انقلاب مايو 1969م حيث وضعت خطة خمسية للفترة 1970-1974م، وقبل نهاية
الخطة الخمسية تم رفد الخطة بما عرف ببرنامج العمل المؤقت الذى مدد العمل بالخطة
الخمسية الى عام 1976م، وبسبب فشل الخطة في تحقيق اهدافها تم تمديد الخطة للفترة
1977م-1988، لكن تم التخلي عن الخطة الخمسية ووضعت خطط وبرامج قصيرة الاجل في عام
1978م، وفي عام 1983 تم الاعلان عن برنامج استثماري مدته ثلاث سنوات، لكن تم تعليق
العمل بالبرنامج الاستثمارى عام 1985م بسبب قيام ثورة ابريل في 1985م ليحل محله
برنامج الانتعاش الاقتصادي في عام 1987م لمدة ثلاثة سنوات؛ ايضا هذا البرنامج لم
يكتمل ليحل محله برنامج الاسترداد الذى كانت مدته ثلاثة سنوات والذى انتهى بسبب قيام
ثورة يونيو 1989م التى وضعت البرنامج الثلاثي للانقاذ الاقنصادي
1990-1998م الذى كان اساسه سياسة التحرير الاقتصادي، ثم وضع برنامج للاصلاح
الاقتصادي سمى بالاستراتيجية القومية الشاملة للفترة 1998-2002م، وشهد عام 2003م تبني
الحكومة لاستراتيجية ربع قرنية؛ وتعتبر الاستراتيجية الربع قرنية نقطة تحول في طريقة
التخطيط الاقتصادي التى اتبعت منذ الاستقلال؛ لكن يبدوا أن انفصال الجنوب القى
بظلاله على هذه الاستراتيجية القومية حيث تم وضع برنامج آخر سمى البرنامج الخماسي
للاصلاح الاقتصادي 2015-2019م ومعنى ذلك التخلى عن الاستراتيجية ربع القرنية التى
كان يفترض أن تمتد الى 2028م.
ان
الوضع الاقتصادى المتردي ونحن على مشارف نهاية عام 2020م يدل على مدى فشل تلك
الخطط والبرامج، وذلك لأن النظم السياسية المتعاقبة كانت تنظر الى كل الخطط من
زاوية سياسية ضيقة وليس من ناحية قومية استراتيجية لذلك يتم رفضها جملة وتفصيلا
دون التفكير فيها بصورة عملية وعقلانية، وهذا يعنى غياب رؤية متفق عليها على
الصعيد الوطني؛ ايضا قصور
أجهزة التخطيط الاستراتيجي، وضعف القدرات الادارية وعدم القدرة على إحداث التنسيق
المطلوب بين الوحدات المنفذة لتلك الخطط وتلك المعنية بالتقييم والرقابة وعدم توفر
البيانات الاحصائية. ويثبت الفشل أنها خطط وبرامج
افتقدت للتخطيط والتحليل الاستراتيجى، ونركز هنا على منظور التحليل الاستراتيجي لأنه
جزء من عملية تخطيط السياسات، وتحليل تحديات تحديد الأهداف الاجتماعية والسياسة
الملائمة لايجاد رؤية أساسية وتعنى بكيفية تطبيق منظور تحليلي استراتيجي باستخدام
المشاكل الاجتماعية؛ من جانب آخر اعتقد انه لم يتم دراسة القوى العاملة والسكان من
اجل دعم السياسات الاقتصادية وتحسينها بالتركيز على الطفل والاسرة، التعليم
والتدريب، اسواق العمل، وسلوك التركيبة السكانية والهجرة من الريف الى المدن
والهجرة الى الخارج، الشيخوخه والتقاعد؛ وهل استطاع السودانيون فهم كيفية تأثير
القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية على عملية اتخاذ القرارات الفردية، وهل
أجريت دراسات حول البيئة والطاقة والمياه والمناخ والكوارث والحروب باعتبارها احد
عوامل نجاح التنمية الاقتصادية؛ وهل تم دراسة النمو الاقتصادى العالمى واتجاهاته، وهل
تم دراسة احتياجات البنية التحتية، واستصحاب حاجات التنمية والحاجات الاجتماعية
والاقتصادية.
أخيراً
السودان في حاجة الى خطة استراتيجية قومية قائمة على رؤية متفق عليها على الصعيد
الوطنى يستصحب فيها التحليل الاستراتيجى كأحد اهم عوامل النجاح، ولا تخضع للتقلبات
السياسية وامزجة الوزراء والسياسيين، لكن تخضع الى أسس قومية لمصلحة السودان.