التمكين في الاسلام يشمل جميع المسلمين
وشتى المجالات، لكن الغريب ان المصطلح في السودان استخدم في غير معناه سواءً من حيث
مفهومه في الاسلام او مفهومه في علم الادارة، ايضا استخدم بطريقة توحى بأن
المسلمين فقط من ينتسبون لفكر معين وحزب معين؛ والتمكين ليس غايته الدنيا أو
الثروة او المناصب انما اقامة الدين. اما من يقول ان هناك تفسير سياسي لمنهج
التمكين يكون اما يتحدث عن دولة غير اسلامية أو فسره لتحقيق مكاسب سياسية ودنيوية
وقطعاً هذا يتناقض مع المفهوم الدلالي في القران الكريم؛ كما قال الدكتور صبري
محمد خليل في مقالة منشورة على موقعه الرسمي، علماً بان المفهوم الدلالي نفسه
متعدد لتحقيق غايات متعددة.
وفي علم الادارة يعتبر مصطلح التمكين Empowerment من المصطلحات الحديثة، وهو لا يتعدى كونه منح الموظفين
حرية من خلال العمل لتوسيع نطاق تفويض السلطة، وزيادة المشاركة الفاعلة في اتخاذ
القرارات، والتحفيز الذاتي، والتأكيد على اهمية بيئة العمل وبناء الثقة بين
الادارة والعاملين مما يؤدي الي تحفيز العاملين ابداعياً. أما من ناحية اهدافه فهو
يهدف الي منح المنظمات قدرة ومرونة في الاستجابة لمتغيرات البيئة المحيطة
بالمنظمة، والتخلص من طرق الأداء التقليدية، كما يهدف الي الغلب على البيروقراطية
من خلال الاندماج الوظيفي؛ لذلك التمكين الوظيفي يؤثر على نجاح المنظمات ويعزز
استمرارها ووجودها.
الآن دعونا نلقي نظرة على سياسة التمكين
التي اتبعتها الحكومة في بداية عهدها وأثرها الادارة والاقتصادي، فهذه السياسة (التمكينيه)
ان جاز التعبير لم يكن هدفها ادارى او ديني، لكن كان هدفها حزبي بإحلال اصحاب
الولاء للتنظيم مكان الكفاءات الموجودة من خلال قانون الصالح العام دون مراعاة
للكفاءة المهنية والخبرة، واتبعت هذه السياسة من اجل ابعاد المعارضين للتنظيم، او
من يظن انهم معارضين أو المشاكسين الذين يعلون ضوابط ونظم العمل والقوانين على
الاوامر السياسية التنظيمية، وفيما بعد استخدمت هذه السياسة حتى ضد ابناء التنظيم
المشاكسين. وهذا الاحلال خلق ارباك على مستوى الاداء العام للخدمة المدنية
وكفاءتها، كما مكن لأناس عديمي الخبرة والكفاءة ولا يخشون القانون بسبب السند
التنظيمي الذى يجدونه، وهذا مكن للفساد الاداري والمالي داخل منظومة الخدمة المدنية
مما أدى الي عجزها عن اداء دورها بل ضرب المنظومة القيمية والاخلاقية، لذلك عجزت
عن القيام بدورها في تحقيق التنمية والنهوض بالسودان، من جانب آخر نرى ان الفساد
الحادث كان مدخله التمكين الذى جلب أناس لا يهابون القانون كما ذكرنا ولا يخافون
من العقاب، ويعملون بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة، كما ان هذا التمكين جلب مفسدين
اظهروا ولائهم الى الانقاذ وبعد ان تم استيعابهم وتعيينهم لوثوا بصورة متعمدة
بالفساد حتى يسهل قيادهم لتنفيذ مخالفات وفساد لصالح آخرين، لذلك اختلت اخلاقيات
الادارة نتيجة لاختلال قواعد والمبادئ التي تحدد السلوك القويم والسلوك الخاطئ
واختل بالتالي القرار النموذجي الذى يأخذ الاعتبارات المادية والاخلاقية عند
اتخاذه، حيث تحول القرار الي قرار ذو اتجاهات حزبية ومادية لا تضع في اعتبارها
الاعتبارات الاخلاقية المتعلقة بالبعد الخارجي المتمثل في المواطن؛ وانعدمت
الشفافية بمفهومها الاداري فلا مساءلة ولا معلومات ولا اخلاقيات. وأذكر هنا مقولة
قالها احد كبار المنظرين الذى قيل له أن فلاناً يعاكس ولا ينقاد فقال لهم (ارموا
له الشطر).
هذا النهج مكن لكثير من المفسدين ومكن
للفساد حتى خارج منظومة الخدمة المدنية بالاستفادة من التسهيلات التي يوفرها لهم
الموظفون الذين تم تمكينهم، واذكر هنا قصة لاحد الذين تقدموا من خلال مناقصة
لتنفيذ عقد واذا به يتصل به موظف ليقول له أن هذا الذى تقدمت به قليل ارفع السعر
الي ثلاث اضعاف ليسهل الامر من ثم يطالب الموظف بنسبة من قيمة مقدرة، وآخر مكن
احدى الشركات من الحصول على مناقصات بعد اتفاقه معهم على نسبة من الارباح، وفي قصة
حديثة متعلقة بعقود نظافة الخرطوم طلب الموظف وآخر معه نسبة 20 في المائة من
اجمالي قيمة العقد لتسهيل الامور رغم ان هذه الشركة الاجنبية قدمت تخفيضات مقدرة
للجانب السوداني. ونلاحظ أنه حدث تمكين داخل الخدمة المدنية وتمكين آخر في مجال
المال والتجارة والأعمال والمصرفية منع آخرين من اخذ فرص عادلة في السوق ادى الي
افلاسهم وآخرين اقعدتهم عن تطوير اعمالهم التجارية. وهذا قطعا أثر على مسيرة
الاقتصاد السوداني وعطله واكسب السودان سمعة سيئة جدا انعكست على تصنيفه الائتماني
الذى يعتبر مدخلاً للحصول على القروض وحتى الهبات.
ومن خلال مبدا التمكين وبدلاً من أن
يكون هناك اطار أخلاقي للالتزام بالقيم ظهر اطار التزام بمبادئ الحزب والتنظيم
الذى لا شك فيه الانانية والايثار، وهذا الاطار أثر على الانفاق الرشيد والترشيد
في المصروفات العامة التي تستقطع الكثير من موازنة الدولة. ان الفساد الاداري في
القطاع الحكومي تطور واصبح ظاهرة معقدة واسعة الانتشار ومتعددة الاساليب والقدرات،
وخلق اتحاد بين دواوين الدولة والقطاع الخاص والقطاع الخاص الحكومي اهدر موارد
الدولة وعطل خطط التنمية واضاع حقوق المواطنين، وأثر على الاقتصاد ككل، وضرب صميم
أخلاق المجتمع في مقتل.
ان سياسة التمكين السياسي اصبحت الادارة
ذات بمفهوم ضيق طويل الامد وابتعدت عن المفهوم الشامل طويل الامد واصبحت الوحدات
الحكومية ومؤسسات الدولة ليست ذات أهداف اجتماعية وانما اصبحت وحدات ذات أهداف
ضيقة تستفيد منها فئة معينة، واصبح الاقتصاد لا يقوم على معايير اقتصادية مقبولة
وانما حسب مسكنات وتجارب، وبذلك تشكل ما يعرف بالقانون الحديدي للمؤسسات وفيه يهتم
المسيطرون على المؤسسات بقوتهم ضمن المؤسسة بدلا من قوة المؤسسة نفسها. لذلك شاعت
المعايير المادية بلغة النقود على حساب المعايير الاخلاقية بلغة القيم والمبادئ.