الثلاثاء، 31 يوليو 2018

اقتصاديات الطاقة المتجددة

نسمع كثيراً عن الطاقة المتجددة فما هي هذه الطاقة ؟ الطاقة المتجددة هي الطاقة المستمدة من الموارد الطبيعية للبيئة ولا تنفد لذلك يستخدم لفظ متجددة عند تعريفها، وتنتج الطاقة المتجددة من الطاقة الشمسية، طاقة الرياح التي تعتبر اكثر الموارد المتجددة نمواً، الطاقة النووية، الطاقة المائية، الطاقة الجوفية، طاقة المد والجزر والطاقة الحيوية المستمد من الكائنات الحية سواء النباتية أو الحيوانية منها، وهي أحد أهم مصادر الطاقة المتجددة، على خلاف غيرها من الموارد الطبيعية مثل النفط والفحم الحجري، معنى ذلك تتوفر الطاقة المتجددة بكميات هائلة وغير محدودة لكن لا يستخدم ولم يستثمر منها إلا كميات قليلة بسبب عدم توفر التكنولوجيا ورأس المال اللازم. وتعتبر الطاقة المتجددة طاقة صديقة للبيئة وهي متوفرة في كل مناطق العالم بعكس الطاقة التقليدية التي تؤثر بشكل مباشر على البيئة وعلى حياة الكائنات الحية الموجودة على سطح الأرض، وذلك باعتمادها على الوقود الأحفوري والبترول، وتسبب ارتفاع درجة حرارة الأرض، وتسبب في ظاهرة الاحتباس الحراري. وارتبط الاهتمام بالبطاقة المتجددة والسعي نحو الاستفادة منها بعد أزمة البترول عام 1973م؛ لكن اصبحت مسألة مهمة جداً لا يخضع الاهتمام بها لتقلبات أسعار البترول أو الغاز، حيث اصبحت تحركها نظرة واقعية لمحدودية مخزونات الطاقة القابلة للنفاذ وآثارها المدمرة على البيئة وحجم الطلب المتنامي على الطاقة حول العالم وأثرها على الاقتصاد العالمي والسياسة الدولية.
وتنبع أهمية الطاقة من أنها تدخل في مفهوم الموارد الاقتصادية سواء كانت بيولوجية أو فيزيائية، وعند استغلالها تعود بالنفع على الدول وشعوبها وكثير من الشواهد التاريخية تدل على ذلك، لكن كانت هذه الموارد موارد قابلة للنفاذ مثل الفحم الحجري والنفط والغاز وتسمى الموارد غير المتجددة بمعنى أنها موجودة في الطبيعة بكميات محدودة وما يستنفذ منها لا يعوض، رغم ان وجود الموارد أو احدها يشكل ثروة لأى بلد وبالتالي تؤثر على اقتصاديات هذا البلد بدءً من نوعية النشاط الاقتصادي ومسار خطط التنمية والازدهار والرفاه الاقتصادي. وينبغي أن نضع في اعتبارنا أن هذه الموارد غير المتجددة يكون لها تأثير سالب على البيئة حيث أنها تؤثر على نظم البيئة، والتلوث، واستنزاف الموارد الذى سوف يؤثر على الاجيال القادمة التي لن تجد هذه الموارد متاحة التي هي ليست ملك جيل واحد فقط، أيضاً السعي الى هذه الموارد يشعل الصراعات والحروب الاقليمية والدولية. 
ارتبط علم الاقتصاد بالموارد الاقتصادية بسبب الحاجات المعتمدة على الموارد واشباعها، وتعتبر دراسة اقتصاديات الموارد من الدراسات الحديثة في مجال علم الاقتصاد؛ وهي تعنى بدراسة الجوانب الاقتصادية للموارد والبيئة. ويعرف الاقتصاد البيئي بأنه (العلم الذى يقيس بمقاييس بيئية الجوانب النظرية والتحليلية والمحاسبية للحياة الاقتصادية بهدف المحافظة على التوازن البيئي بما يحقق النمو المستدام). وهناك تداخل قوى وعلاقة تبادلية بين ما يحقق من ارباح نتيجة تشغيل الموارد وبين تدهور البيئة مثلا بسبب استخدام واستغلال تلك الموارد وما ينتج عنها من مخلفات.
يلعب القطاع العام دورا حاسما في تهيئة بيئة الاستثمار في الطاقة المتجددة من خلال البرامج والسياسات التي تضعها الدولة، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى وزيادة جاذبية قطاع الطاقة المتجددة أمام المستثمرين من القطاع الخاص.
وتستطيع الحكومة استثمار الأموال العامة في مصادر الطاقة المتجددة، ولا سيما عن طريق مؤسسات تمويل التنمية الثنائية والمتعددة الأطراف، والصناديق الوطنية وغيرها من المؤسسات المالية الوطنية. يمكن لهذه الآليات المالية العامة أن تساعد في ضخ التمويل الأولي اللازم في قطاع ناشئ أو القطاعات التكنولوجية الجديدة، وعلى أن تتحمل الدولة مخاطر الاستثمار في هذا المجال لزيادة ثقة المستثمرين من القطاع الخاص، وتخفيض تكاليف التمويل. تتميز مصادر الطاقة الشمسية وطاقة الرياح المتجددة بتكاليف تشغيل منخفضة، وعند الانتهاء من بناء منشآت التوليد، تكون هناك تكلفة إضافية قليلة لإنتاج الطاقة لكل سنة. والناس في المنازل يشترون فرن غاز وفي الوقت نفسه لا يشترون كل الغاز الذي سيستخدمه الفرن على مدى حياته. ومع ذلك، فإن هذا هو بطبيعة الحال ما هو متوقع لمعظم مصادر الطاقة المتجددة.، عكس البترول والغاز بالإضافة الى تكاليف بناء المحطات يتم شراء الحقل.
          تأتى البرازيل في مقدمة الدول التي استثمرت في هذه الطاقة حيث بلغت استثماراتها حوالى 48 مليون دولار، ثم بريطانيا 9.2 مليون دولار، والهند 7.3 مليون دولار، وباكستان 4.3 مليون دولار، والمانيا 3.7 مليون دولار، لكن لا أثر لأى استثمارات في السودان في الطاقة المتجددة خلاف الطاقة الكهرومائية التي يتعرض انتاجها الى تقلبات موسم الامطار وكذلك الخلافات بين دول حوض النيل؛ والآن فقط وقعت وزارة الموارد المائية والري والكهرباء وشركة (EMD International) الدنماركية عقدا لإعداد اطلس الرياح في السودان، نتمنى أن بداية لاستثمار واعد في استخدام الرياح لإنتاج الطاقة. أيضا هناك محاولات خجولة للاستفادة من الطاقة الشمسية في بعض الولايات التي تعانى من شح الكهرباء. أيضاً الانظمة التشريعية في السودان تعيق التقدم والاستثمار في مجال الطاقة المتجددة.
يمكن ان تلعب صناديق المعاشات، وشركات التأمين، والأوقاف، وصناديق الثروة السيادية التي تشكل معاً أكبر مصدر محتمل لرأس المال الخاص حسب الدراسات، دوراً حاسماً في زيادة استثمارات الطاقة المتجددة، حيث تدير هذه المصادر أكثر من 90 تريليون دولار أمريكي من إجمالي الأصول في البلدان المتقدمة وحدها. ونذكر هنا أن العقبة الرئيسة أمام انتشار استخدام الألواح الضوئية الشمسية تكمن في الكلفة؛ فهذا النوع من الطاقة مكلف مقارنة بالفحم أو الغاز، لكن يرى الباحثون أن الطاقة الشمسية سوف تصبح أقل كلفة بحلول عام 2025م لتصبح أرخص مصدر للطاقة في العديد من دول العالم. فمتى يستفيد السودان من مصادره المتنوعة والغنية ذات الطاقة المتجددة. 

الاثنين، 9 يوليو 2018

التنمية في السودان واقتصاد المعرفة

          إن التحولات الاساسية والكبيرة في التاريخ البشري منذ بدء الحضارات، وعصر الزراعة، والثورة الصناعية، والعصر الرقمي والتي تعرف بالتحولات الثلاث التي تعتبر انها حققت للبشرية ثورة في اسلوب الحياه نحو الرفاهية. كان يفترض أن يكون لنا في السودان منها نصيب ومصدر للازدهار والتقدم؛ من خلال ما يعرف باقتصاد المعرفة، لكن ما نراه اليوم لا يدل فقط على فشلنا في الاستفادة من اقتصاد المعرفة بل حتى مدى الاستفادة من مواردنا الطبيعية الوفيرة كمحرك للتنمية والتقدم من خلال ادارة الاقتصاد التقليدي، واذا لم نستفيد من العوامل الاقتصادية التقليدية قطعاً لن نستفيد من اقتصاد المعرفة حيث فشلنا في انتاج واستخدام المعرفة من خلال مؤسساتنا التعليمية والاكاديمية كما لا توجد لدينا شركات عاملة في مجال البحث والتطوير. فما هو مصطلح اقتصاد المعرفة؟
          ظهر هذا المصطلح في بداية ستينيات القرن العشرين لوصف تحول الاقتصاديات التقليدية الى اقتصاديات يكون انتاج المعرفة واستخدامها ذو أهمية من خلال التراكم المعرفي وتطوير العلوم والتكنولوجيا وقطاع المعلومات والاتصالات. وعرفت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) اقتصاديات المعرفة (بأنها الاقتصاديات القائمة على المعرفة المتميزة والمستندة على التوزيع والانتاج واستخدام المعارف والمعلومات والاستثمارات ذات التكنولوجيا العالية والصناعات ذات التكنولوجيا الحديثة وتحقيق مكاسب في الانتاجية المرتبطة بها). وعرف البنك الدولي اقتصاديات المعرفة من خلال أربعة أركان، الهياكل المؤسسية التي توفر الحوافز لريادة الأعمال واستخدام المعرفة، توفر العمالة الماهرة وانظمة التعليم الفعالة، والبنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والوصول اليها، واوساط اكاديمية مبدعة والقطاع خاص والمجتمع المدني. لا شك ان هذه الاركان الثلاثة تحقق تحولات كبيرة تؤثر على الاقتصاد وبالتالي حياة المجتمع، حيث أن المعرفة في اقتصاديات اليوم المحرك الرئيس للمنافسة وبتأثيرها على المنتجات والابتكار. لكن علينا أن نفرق بين اقتصاد المعرفة المتمثل في المعلومات حيث يعتمد الانتاج على المعلومات التي تعتبر المنتج الوحيد في الاقتصاد؛ وفي اقتصاد المعرفة تتم خدمات عمليات المعرفة التي تنتج وتصنع المعرفة بما في ذلك عمليات البحث والتطوير والابتكار وتشمل كذلك تكاليف البحث والتطوير والادارة واعداد وتطوير الموارد البشرية، والعائد من هذه التكاليف على اعتبار انها عملية اقتصادية كاملة فيها تكاليف الانتاج وعوائد الادوات المنتجة؛ اما الاقتصاد القائم والمبني على المعرفة فهو أشمل واعم ومرحلة متقدمة من الاقتصاد المعرفي، وقطاع الاقتصاد المبنى على المعرفة اوسع ويشمل قطاعات المعرفة والمعلومات والاستثمارات وتكنولوجيا المعرفة المستخدمة في الانتاج.       
          وفي عالم اليوم نجد أن الدول التي تمتلك المعرفة هي التي تحقق الريادة وتتصدر خارطة الدول المتقدمة وبالتالي تحقيق الرفاه لمواطنيها. والتنمية بمفهومها الحديث ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية وربطت التنمية بعلم الاقتصاد في اول الأمر رغم انها ترتبط كذلك بالتنمية الانسانية، نذكر هنا ان العلامة ابن خلدون في مقدمته ذكر ان للإنسانية ثلاثة أبعاد، اقتصادية، سياسية وفكرية؛ أيضا وضع البنك الدولي مفهوم التنمية في صميم التنمية من خلال مبادرته المسماة المعرفة من أجل التنمية، على اعتبار أن الفجوة بين التنمية والرفاه الاقتصادي بين الدول المتقدمة والدول النامية يتمثل في القدرة على اكتساب المعرفة وليس في الدخل، وحدد البنك الدولي ان الفرق بين فئات المجتمع الفقيرة والغنية ليس في ضعف الموارد فحسب لكن في ضعف القدرة على انتاج المعرفة، ويعنى ذلك انه على الدول النامية التي تعاني من الأزمات الاقتصادية أن تدعم أنشطة انتاج المعرفة كدعمها لزيادة الدخل القومي من خلال جعل المعرفة وسيلة للإنتاج والتنمية الاقتصادية من خلال تقنيات المعرفة من تعليم تقني وتدريب مهني، البحث والتطوير وعمليات الابتكار، والاقتصاد وتطوير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
          أما حال السودان بالقياس الي مؤشرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية نجد في مجال مؤشرات نظم التعليم أنه لدينا مشكلات كبيرة في مخرجات العملية التعليمية، ومكتسبات الطلاب ومساراتهم، والمؤسسات التعليمية، وموارد انظمة التعليم. اما قطاع التعليم التقني والتدريب المهني فحدث ولا حرج فهو يعانى الأمرين وينظر اليه بأنه ادنى منزلة من المساق الاكاديمي لذلك لا يدخله إلا اصحاب الدرجات المتدنية بسبب عزوف الطلاب عنه ونظرة المجتمع، لذلك نجد ان مخرجات منظومة التعليم التقني والتدريب المهني ضعيفة جداً ويظهر ذلك من خلال وضع العمالة السودانية المهنية داخل سوق العمل وعدم قدرتها على المنافسة لقلة الكفاءة المهنية بالإضافة الى عوامل اخرى نفسية واجتماعية، وتنبع أهمية التعليم التقني والتدريب المهني في أنه يرفد سوق العمل في قطاعه المهني بالعناصر ذات الكفاءة المهنية والعمالة المعرفية الوسيطة. أما مؤشر التعليم العالي، في السودان غلب عليه التوسع الأفقي والكم دون الكيف على حساب المخرجات، والبيئة التعليمية والابتكار والجودة، كما كان التوسع دون النظر الى الموارد المتوفرة وسوق العمل. أما من ناحية مؤشر تكنولوجيا المعلومات الذي يلعب دوراً محورياً ومؤثراً في المعرفة حيث يدعم جميع القطاعات المكونة للمعرفة، وتقاس مؤشرات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بالبنية الاساسية للشبكات ووسائل الاتصال، المحتوى الرقمي، وتعرفة الخدمة ونطاق الاتصال بالانترنت ومدى اتساعه وكل هذه المؤشرات لم ننجح فيها.
نأتي الي مؤشر الاقتصاد المعرفي حيث نجد أن حال اقتصادنا التقليدي في اسوأ حالاته، فيغيب الابتكار والابداع وايجاد الحلول لذلك يعم التخبط في السياسات الاقتصادية والنقدية. وفي الاقتصاد المعرفي يتم التوسع في استخدام الكفاءات ذات المهارات العالية مع التدريب المستمر؛ وهذا المؤشر اثر عليه سياسة التمكين، أيضا اقتصاد المعرفة فيه توازن في علاقة الدولة بقطاعات الاعمال؛ لكن اليوم الحكومة خلقت علاقة غير متكافئة بدخولها السوق ومزاحمتها للقطاع الخاص ومنافسته مما خلق عدم الثقة والتنافر بين القطاع الخاص والحكومة. واذا ارادت الحكومة اصلاح الاقتصاد واحداث تنمية مستدامة عليها أن تدعم بقوة أنشطة انتاج المعرفة.

الجمعة، 6 يوليو 2018

الجهاز المصرفي وأزمة الثقة

يرتبط عدم الثقة في الجهاز المصرفي غالباً بالأزمات المالية التي ينتج عنها بالنسبة للبنوك مسارعة المودعين المذعورون الي سحب اموالهم من البنوك، واحجام البنوك اقارض بعضها البعض لانعدام الثقة، مما يتسبب في التباطؤ الاقتصادي. لذلك تسارع الحكومات والقادة السياسيون الي حماية النظام المصرفي ونذكر هنا الازمة الاسوأ 2007-2008م التي شهدتها الولايات المتحدة الامريكية وبقية العالم، حيث اقر الكونجرس خطة لإنقاذ البنوك الامريكية تبلغ قيمتها 700 مليار دولار سنوياً في عهد جورج بوش، وسارع ايضا القادة الاوربيون الي ايداع تريليونات الدولارات كضمانات للودائع والقروض بين البنوك لبث الثقة في نفوس مواطنيهم، لأنه معروف أن انهيار الثقة يعنى تعقيداً للازمات المالية وانهيار المزيد من المؤسسات المالية، معنى ذلك أن الدولة تكون هي الحامي والضامن للثقة وليس العكس. واهم المخاطر التي تتعرض لها البنوك مخاطر السمعة والثقة وهي قد تؤدي بالبنك الى الفشل والافلاس أو تقل ارباحه وقدرته على التمويل والاقراض.
          رغم انه حسب علمي لم يحدث انهيار فعلي لأي من المؤسسات المصرفية في السودان رغم الحديث عن تعثر بعض البنوك، لكن الازمة الاقتصادية الخانقة قد تحدث ذلك، وقد يحدث ذلك التعثر المصرفي الذى لازم البنوك السودانية، وضعف رقابة البنك المركزي، وانهيار سعر صرف الجنية مقابل الدولار بشكل سريع منذ يناير 2018م ونذكر أن الناس سارعت الى سحب ودائعها لشراء الدولار والاصول للمحافظة على قيمة اموالهم، وفي فبراير 2018م وضع بنك الخرطوم سقفاً للسحب في حدود 30 ألف جنيه لكل عميل بسبب اقبال العملاء على سحب كامل مدخراته، أيضا الاجراءات الأخيرة التي اتبعتها الحكومة للسيطرة على السيولة النقدية؛ واي بنك يعاني من نقص في السيولة ولم يكن يملك سيولة سريعة فهذا يعني انه أفلس وقد يكون رأس ماله قد تآكل لأن الصرف على البنود التشغيلية ربما تكون على حساب ودائع العملاء. لكن ازمة الثقة في اعتقادي بدأت منذ وقت مبكر بقرار تبديل العملة في عام 1991م والذى كان هدفه امتصاص السيولة خارج الجهاز المصرفي وادخال الدينار بدلاً من الجنيه والمشكلة لم تكن في القرار ولكن ما تبعه من قرارات اخري مثل تقييد حدود السحب من الحسابات وتحديد الفئات النقدية للمبالغ المسحوبة من الحسابات، مما أدى الي لجوء التجار الي الاحتفاظ بأموالهم خارج الجهاز المصرفي، وهذا الاتجاه من العملاء عطل الادخار وبالتالي انقاص مجمل قيمة الاستثمار واوقف حركة نماء الدخل العام، وأعاق النشاط الاقتصادي بصورة عامة، أيضاً كان العملاء يسحبون أموالهم مجرد تحصيل شيكاتهم او ورود تحويلات الي حساباتهم؛ من جانب آخر كانت هناك ظاهرة على من جانب بنك واحد تقريباَ وهي التلاعب في عدد الاوراق النقدية في كل حزمة نقدية عند صرفها ولم تتعامل السلطات النقدية بحزم في ذلك الوقت مع الظاهرة التي لا شك كان لها تأثير على الثقة؛ كما كانت اجراءات السحب من الحسابات المفتوحة بالدولار طامة حيث يتم تحديد سقف للسحب من الحساب ولاشك انها اجراءات منفرة جعلت الناس لا يفتحون حسابات بالعملة الصعبة؛ وظهرت في تلك الفترة ظاهرة التلاعب بتحويلات المغتربين الواردة خاصة تلك الواردة من الجماهرية الليبية، ايضا التلاعب في الحسابات الجامدة؛ وكثير من البنوك حول العالم أدت مخالفات القوانين والتعليمات، وخيانة الامانة والثقة التي اقدم عليها بعض العاملون الي الاساءة الي سمعة هذه البنوك وتوقف العملاء عن التعامل معها، ومعروف ان من اهم عوامل النجاح مدى ثقة العملاء في البنك، ونذكر هنا نقطة جد مهمة ألا وهي تلك الثقة المتعلقة بالسيولة النقدية وتوفرها دائماً لمواجهة مسحوبات العملاء، وحفظ حق العميل في سحب امواله متى ما شاء سواء كانت من حسابه الجاري او الودائع تحت الطلب، ولن نتطرق الي احتياجات البنك التشغيلية وقدرته على توفير التمويل للمستثمرين والعملاء لأن المشكلة الأخيرة في السودان لا تتعلق بالتحويلات بين الحسابات أو منح التمويل لكن كانت متعلقة بتقييد حدود سحب العملاء من حساباتهم.   
          وتنطوي الثقة على اركان ثلاث، الركن الأول متعلق بتوقع رد فعل الطرف الآخر، والثاني متعلق بإمكانية الاعتماد على الطرف الاخر، والركن الثالث متعلق بوضع الثقة الكاملة بالطرف الآخر، لذلك عند فقد العملاء للثقة في البنك ينزعون نحو سحب ودائعهم وربنا يكون ذلك على مستوى واسع يؤثر على البنك ووضعه المالي واستقراره، من جانب آخر قد يسحب العملاء ودائعهم خوفاً من اخفاض العائد بسبب تدني كفاءة العاملين في البنك وهذا ما يعرف بمخاطر المصداقية والثقة، فالتزام ومسؤولية البنك تجاه العملاء هي زرع الثقة، وتنشأ ثقة العملاء من خلال التزام البنك بما يتعهد به، ونقيض ذلك يزعزع أركان الثقة مما يؤدى احجام العملاء والمتعاملون عن الايداع والتعامل مع البنك، والثقة كذلك ترتبط بالتعامل والالتزام والارتياح والرضا وهذا ما يتوافق مع نظريات التسويق.  
          أيضا ظاهرة هروب رؤوس الاموال الي دول الجوار ربما ترتبط بضعف الثقة في القطاع المصرفي السوداني بسبب عدم قدرته على التعامل مع منظومة الصيرفة الدولية بسبب العقوبات الاقتصادية الامريكية، فبنوك دول الجوار تتميز بمنح تسهيلات كبيرة مع القدرة على التعامل مع القطاع المصرفي العالمي دون مشاكل.
          إن ما تسببت فيه اجراءات الحكومة منذ 1991م، كان خصماً على مجمل العمل المصرفي وساهم في زيادة اجواء عدم الثقة بين العملاء والبنوك، وتلوح في الافق نذر موجة سحب للودائع والاموال من البنوك في ظل وجود سبب قائم ومستمر الا وهو تدهور قيمة الجنية، وهذا السحب الجماعي للودائع سوف يتسبب في انهيار البنوك. ونسأل كيف سوف يتم معالجة هذه الازمة والخروج من ازمة الانهيار الحاد في ثقة العملاء في الجهاز المصرفي. 

الأحد، 17 يونيو 2018

أثر سياسة التمكين على الاقتصاد

          التمكين في الاسلام يشمل جميع المسلمين وشتى المجالات، لكن الغريب ان المصطلح في السودان استخدم في غير معناه سواءً من حيث مفهومه في الاسلام او مفهومه في علم الادارة، ايضا استخدم بطريقة توحى بأن المسلمين فقط من ينتسبون لفكر معين وحزب معين؛ والتمكين ليس غايته الدنيا أو الثروة او المناصب انما اقامة الدين. اما من يقول ان هناك تفسير سياسي لمنهج التمكين يكون اما يتحدث عن دولة غير اسلامية أو فسره لتحقيق مكاسب سياسية ودنيوية وقطعاً هذا يتناقض مع المفهوم الدلالي في القران الكريم؛ كما قال الدكتور صبري محمد خليل في مقالة منشورة على موقعه الرسمي، علماً بان المفهوم الدلالي نفسه متعدد لتحقيق غايات متعددة.
          وفي علم الادارة يعتبر مصطلح التمكين Empowerment من المصطلحات الحديثة، وهو لا يتعدى كونه منح الموظفين حرية من خلال العمل لتوسيع نطاق تفويض السلطة، وزيادة المشاركة الفاعلة في اتخاذ القرارات، والتحفيز الذاتي، والتأكيد على اهمية بيئة العمل وبناء الثقة بين الادارة والعاملين مما يؤدي الي تحفيز العاملين ابداعياً. أما من ناحية اهدافه فهو يهدف الي منح المنظمات قدرة ومرونة في الاستجابة لمتغيرات البيئة المحيطة بالمنظمة، والتخلص من طرق الأداء التقليدية، كما يهدف الي الغلب على البيروقراطية من خلال الاندماج الوظيفي؛ لذلك التمكين الوظيفي يؤثر على نجاح المنظمات ويعزز استمرارها ووجودها.
          الآن دعونا نلقي نظرة على سياسة التمكين التي اتبعتها الحكومة في بداية عهدها وأثرها الادارة والاقتصادي، فهذه السياسة (التمكينيه) ان جاز التعبير لم يكن هدفها ادارى او ديني، لكن كان هدفها حزبي بإحلال اصحاب الولاء للتنظيم مكان الكفاءات الموجودة من خلال قانون الصالح العام دون مراعاة للكفاءة المهنية والخبرة، واتبعت هذه السياسة من اجل ابعاد المعارضين للتنظيم، او من يظن انهم معارضين أو المشاكسين الذين يعلون ضوابط ونظم العمل والقوانين على الاوامر السياسية التنظيمية، وفيما بعد استخدمت هذه السياسة حتى ضد ابناء التنظيم المشاكسين. وهذا الاحلال خلق ارباك على مستوى الاداء العام للخدمة المدنية وكفاءتها، كما مكن لأناس عديمي الخبرة والكفاءة ولا يخشون القانون بسبب السند التنظيمي الذى يجدونه، وهذا مكن للفساد الاداري والمالي داخل منظومة الخدمة المدنية مما أدى الي عجزها عن اداء دورها بل ضرب المنظومة القيمية والاخلاقية، لذلك عجزت عن القيام بدورها في تحقيق التنمية والنهوض بالسودان، من جانب آخر نرى ان الفساد الحادث كان مدخله التمكين الذى جلب أناس لا يهابون القانون كما ذكرنا ولا يخافون من العقاب، ويعملون بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة، كما ان هذا التمكين جلب مفسدين اظهروا ولائهم الى الانقاذ وبعد ان تم استيعابهم وتعيينهم لوثوا بصورة متعمدة بالفساد حتى يسهل قيادهم لتنفيذ مخالفات وفساد لصالح آخرين، لذلك اختلت اخلاقيات الادارة نتيجة لاختلال قواعد والمبادئ التي تحدد السلوك القويم والسلوك الخاطئ واختل بالتالي القرار النموذجي الذى يأخذ الاعتبارات المادية والاخلاقية عند اتخاذه، حيث تحول القرار الي قرار ذو اتجاهات حزبية ومادية لا تضع في اعتبارها الاعتبارات الاخلاقية المتعلقة بالبعد الخارجي المتمثل في المواطن؛ وانعدمت الشفافية بمفهومها الاداري فلا مساءلة ولا معلومات ولا اخلاقيات. وأذكر هنا مقولة قالها احد كبار المنظرين الذى قيل له أن فلاناً يعاكس ولا ينقاد فقال لهم (ارموا له الشطر).
          هذا النهج مكن لكثير من المفسدين ومكن للفساد حتى خارج منظومة الخدمة المدنية بالاستفادة من التسهيلات التي يوفرها لهم الموظفون الذين تم تمكينهم، واذكر هنا قصة لاحد الذين تقدموا من خلال مناقصة لتنفيذ عقد واذا به يتصل به موظف ليقول له أن هذا الذى تقدمت به قليل ارفع السعر الي ثلاث اضعاف ليسهل الامر من ثم يطالب الموظف بنسبة من قيمة مقدرة، وآخر مكن احدى الشركات من الحصول على مناقصات بعد اتفاقه معهم على نسبة من الارباح، وفي قصة حديثة متعلقة بعقود نظافة الخرطوم طلب الموظف وآخر معه نسبة 20 في المائة من اجمالي قيمة العقد لتسهيل الامور رغم ان هذه الشركة الاجنبية قدمت تخفيضات مقدرة للجانب السوداني. ونلاحظ أنه حدث تمكين داخل الخدمة المدنية وتمكين آخر في مجال المال والتجارة والأعمال والمصرفية منع آخرين من اخذ فرص عادلة في السوق ادى الي افلاسهم وآخرين اقعدتهم عن تطوير اعمالهم التجارية. وهذا قطعا أثر على مسيرة الاقتصاد السوداني وعطله واكسب السودان سمعة سيئة جدا انعكست على تصنيفه الائتماني الذى يعتبر مدخلاً للحصول على القروض وحتى الهبات.
          ومن خلال مبدا التمكين وبدلاً من أن يكون هناك اطار أخلاقي للالتزام بالقيم ظهر اطار التزام بمبادئ الحزب والتنظيم الذى لا شك فيه الانانية والايثار، وهذا الاطار أثر على الانفاق الرشيد والترشيد في المصروفات العامة التي تستقطع الكثير من موازنة الدولة. ان الفساد الاداري في القطاع الحكومي تطور واصبح ظاهرة معقدة واسعة الانتشار ومتعددة الاساليب والقدرات، وخلق اتحاد بين دواوين الدولة والقطاع الخاص والقطاع الخاص الحكومي اهدر موارد الدولة وعطل خطط التنمية واضاع حقوق المواطنين، وأثر على الاقتصاد ككل، وضرب صميم أخلاق المجتمع في مقتل.
          ان سياسة التمكين السياسي اصبحت الادارة ذات بمفهوم ضيق طويل الامد وابتعدت عن المفهوم الشامل طويل الامد واصبحت الوحدات الحكومية ومؤسسات الدولة ليست ذات أهداف اجتماعية وانما اصبحت وحدات ذات أهداف ضيقة تستفيد منها فئة معينة، واصبح الاقتصاد لا يقوم على معايير اقتصادية مقبولة وانما حسب مسكنات وتجارب، وبذلك تشكل ما يعرف بالقانون الحديدي للمؤسسات وفيه يهتم المسيطرون على المؤسسات بقوتهم ضمن المؤسسة بدلا من قوة المؤسسة نفسها. لذلك شاعت المعايير المادية بلغة النقود على حساب المعايير الاخلاقية بلغة القيم والمبادئ.

الأربعاء، 13 يونيو 2018

أثر الفساد الاداري على التنمية الاقتصادية والاجتماعية

          تزايد الفساد الاداري في الآونة الاخير واصبح حديث المجالس والمنتديات وتناوله كثير من الكتاب والائمة من على منابر المساجد، على اعتبار انه ظاهرة خطيرة لها تأثير بالغ الضرر على المجتمع والنشاط الاقتصادي والتنموي، ورغم ان انتشاره ليس حصرا على السودان بل هو ظاهرة منتشرة في كثير من الدول النامية مع اختلاف مستوياته واختلاف الاسس الفكرية للتنظيمات السياسية والاخلاقية التي تحكم، لكن اذا نظرنا الي السودان نجد انه ارتبط بالتنظيم السياسي الحاكم بصورة اساسية ومكن من انتشاره وساعد على اتساع رقعته، كما ارتبط بالمستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للموظف العام. ومعظم الدراسات تشير الي أن الفساد الإداري في الدول النامية يصحب عادة عمليات التنمية الاقتصادية؛ وفي السودان أخذت هذه الظاهرة بالظهور عقب انتهاء سنين الشدة وظهور ايرادات البترول التي غذت خزينة الدولة المتعطشة للمال، ومع ازدياد مصروفات الدولة وبداية الحصار الاقتصادي.
          تنبع اهمية محاربة الفساد الاداري ومعالجته من اثره المدمر على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأثره على ثقة المؤسسات الدولية المالية والمؤسسات المانحة في الحكومة وكيفية ادارتها للموارد. ومن اهم اساليب معالجة الفساد الاداري معالجة أسبابه الرئيسة واعطاء مكافحة اولوية قصوى، لكن الحكومة اهتمت بالأجهزة الامنية التي تحافظ على النظام، وسياسة التمكين، ولم تهتم بالقضاء على الفساد الإداري لأنها لاعب رئيس في منظومة الفساد الاداري.
          اتجهت معظم الدارسات الفكرية الحديثة في العلوم الادارية والاجتماعية الي دراسة الظروف الاقتصادية والاجتماعية لتفسير الفساد الاداري، والظروف السياسية والثقافية والبيئة المحيطة بالمجتمع الذى ينتشر فيه الفساد، ومدى تأثير ذلك على سلوك الافراد الذين يسعون الى تحقيق اهداف مشروعة خاصة بهم لكن بوسائل غير مشروعة؛ وفي السودان أرى ان العوامل السياسية من خلال سيطرة التنظيم على مفاصل الدولة كانت ابرز عوامل انتشار وظهور الفساد الإداري، من خلال سيطرة منسوبي التنظيم على الوظائف العامة نتيجة لسياسة التمكين، ومن ثم استغلال النفوذ التنظيمي وتمكين المنتفعين الذين لا ينتمون للتنظيم سواء من اجل الترضيات أو لأنه لديهم قابلية للانغماس في الفساد عكس افراد التنظيم الصادقين بالتالي انتشرت الرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ ومخالفة الانظمة واللوائح والقوانين. هذا يعنى ان التنظيم هو الحاضن الاوحد لمنظومة الفساد الاداري ومظاهره، وبشكل أقل المجتمع بسبب الفقر وبسبب الحاجة الى قضاء حوائجه التي لن تقضى إلا بالرشوة. وهذه الظاهرة الخطيرة كان لها الاثر البالغ في تهديد والقضاء على الكيان الإداري والاقتصادي ويتوقع أن تؤثر في المستقبل على الكيان السياسي ككل وعلى التنظيم الحاكم. وبما أننا ذكرنا أن اساس مدخل هذا الفساد كانت الوظيفة العامة بسبب الاخلال بالضوابط الادارية والقانونية المؤهلة لشغل الوظيفة العامة، ليس من خلال التحايل على القوانين والانظمة لكن من خلال القرارات السياسية ذات الطابع الاداري، والامثلة على ذلك كثيرة جداً في مجال الترقيات والترضيات وانشاء وتعطيل ادارات بغرض توظيف منتسبي التنظيم أو افراغها لتعطيلها ومنعها من تحقيق اهداف وجودها.
      الامر الخطير في السودان هو الرفض والانكار للاتهامات والمزاعم بوجود الفساد الإداري رغم المظاهر الواضحة والدالة عليه، حيث تتعامل الحكومة معها على اساس انها مزاعم من المعارضين وهى محض افتراءات، بل تتعامل مع هذه المزاعم على اساس انها تعدٍ على خصوصيتها؛ بدلاً من الاعتراف ودراسة الظاهرة وتشخيصها ومعرفة اسبابها من اجل ايجاد الحلول للحد منها والقضاء عليها، بل تزعم أيضا أن اصحاب الفساد ليسوا من افراد تنظيمها بل هم من خارج التنظيم تم الاستعانة بهم لأغراض معينة. لكن ندرك أن هناك علاقة قوية بين التغيرات السياسية والتنظيمية بكم ونوع الفساد الاداري المنتشر والذى يحميه التنظيم، فكم من قرارات تتخذ خارج الاطر الادارية والتنظيمية التي تحكم دولاب العمل وما على الادارة أو الوزارة إلا التنفيذ، لذلك استخدم أفراد التنظيم الفساد الاداري للتأثير على النشاطات البيروقراطية من خلال اسهام المتنفذين من افراد التنظيم في عملية اتخاذ القرارات الادارية داخل مؤسسات الدولة، ايضاً تجلى الفساد الاداري في سوء استخدام المال العام والملكية العامة، وسوء استخدام السلطة ومخالفة اسس واطر ومعايير المسئولية تجاه الدولة لصالح التنظيم، وتنشأ عملية الفساد بين الموظف وبين طرف خارجي يمثل التنظيم والسلطة الآمرة وذلك من خلال التضحية بالمصلحة العامة لصالح مصلحة التنظيم.   
          وعددت الدراسات الاسباب المؤدية للفساد الاداري من أوجه عدة نراها ماثلة امامنا في السودان وهي، الصفات الشخصية ترتبط بالتنظيم، الانتقال من مرحلة الفقر الى الغنى، الافتقار الى الوازع الديني والاخلاقي، العقوبات المتهاونة، تأثير القيم التنظيمية وطغيانها على المصلحة العامة، تهاون المجتمع مع المرتشين والرشوة عموماً لقضاء مصالحهم المتعطلة بدون سبب وغياب السلطة العليا وبعدها عن مشاكل الناس.
          وحتى يمكن ان تنجح الحكومة في ايقاف الفساد يجب عليها ابعاد سطوة التنظيم عن دولاب العمل ومنع تدخله في شأن المؤسسات العامة، واخذ ما تنشره وسائل الاعلام باعتبارها سلط رابعة على محمل الجد، واطلاق يد الاعلام لكشف الفساد، ونذكر هنا ما نشرته صحيفة الصيحة عن فساد متعلق بحيازة اراضٍ سكنية، وبدلاً من محاسبة المتهم الذى يتملك الان مكتب عقارات تم محاسبة صحيفة الصيحة وايقافها لزمن طويل جداً، تفعيل القوانين والتشريعات الخاصة بالفساد الإداري وتطبيقها على الكل بصورة عادلة.
          يمكن ان نقول ان الفساد في السودان يتمثل في تعريف روبرت تلمان الذى قال" الفساد الذى يسود في بيئة تساند فيها السياسة العامة للحكومة نظاماً بيروقراطياً، وتتم المعاملات في سرية [انعدام الشفافية] ولا تفرض جزاءات رسمية كالرشوة وتوظيف الاقارب [افراد التنظيم] من غير ذوي المؤهلات والخبرات وما الي ذلك". ان الفساد الاداري يؤدي الي تصدع النسيج الاجتماعي، وانهياراً اقتصادياً مما يحدث خللاً داخل الدولة يؤدي بها الى الهلاك، " وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون". صدق الله العظيم

الخميس، 1 فبراير 2018

هل قيمة الجنيه السوداني حقيقية وعادلة ؟

          اقتصاديا يتناسب دخل الفرد طرديا مع طلب الافراد على السلع والخدمات فترتفع نتيجة لذلك أسعار السلع والخدمات، بينما عند انخفاض الدخل فإن الطلب على السلع والخدمات سوف ينخفض وبذلك تنخفض اسعارها، وعلى العكس من ذلك في السودان فقيمة النقود تتناقص وبالتالي تنخفض قيمة الجنيه الحقيقية ولكن في نفس الوقت ترتفع اسعار السلع والخدمات ليس بطلب ولكن لانخفاض سعر صرف الجنيه امام الدولار. لذلك نجد أن دخل الفرد يتناقص عكسيا مع ارتفاع سعر صرف الدولار، وانخفاض قيمة العملة يحدث عندما تعاني العملة من انخفاض سعر الصرف بالنسبة لعملة أو مجموعة عملات مرجعية؛ وهذا الانخفاض لا يتوقف فقط على احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي، أيضا بسبب السياسة النقدية، وكون الدولار اصبح سلعة من السلع الرائجة التي يسعى الكل ويتهافت للحصول عليها ليس سماسرة الصرف وهم الوسطاء النشطون الذين على علم بالمشترين البائعين للدولار، ففيما مضى كان الشخص يبحث عن التجار في صالات واضابير السوق الافرنجي بالخرطوم، اما الآن تجد المشترى بالقرب منك في كل مكان جارك، صديقك، قريبك، وصاحب الدكان، حتى بائعة التسالي والفول، وصاحب العربة التي يجرها الحصان، ليس تقليلا من شأنهم ولكن لبساطة حياتهم ومتطلباتها. لان دخلهم بالجنيهات لا يمكن المحافظة عليه من حيث القيمة إلا اذا تم تحويله الى دولار، وذلك للتغلب على متوالية سعر صرف الدولار المتصاعدة.
          وحتى يتضح الأمر سوف نلجأ الى مصطلح القيمة الحقيقية والمفاهيم الاقتصادية المختلفة للدخل. فالقيمة الحقيقية احد مفاهيم القيمة العادلة وهو يرمز إلى قيمة الشركة وجوانب عملها وأصولها الملموسة وغير الملموسة خلال مدى معين. وبصورة أوضح مثلا يختلف سعر العملة الاسمية عن التمثيل المثالي كقيمة مجردة لإتمام عمليات التبادل المادي (الحقيقي)، والقيمة الاسمية من الناحية الاقتصادية هي التي يعبر عنها وفق شروط نقدية اسمية ثابتة وهي وحدات النقد (العملة) في سنة معينة أو عدد من السنوات، ولكن القيمة الحقيقية تضبط القيمة الاسمية للتخلص من التغير في مستوى الأسعار بمرور الوقت. فمثلا قد تحدث تغيرات في القيمة الاسمية لبعض السلع والخدمات بمرور الزمن نظرا للتغير في الكمية والأسعار المرتبطة بالسلع، ولكن يعكس التغير في القيمة الحقيقية التغير في الكميات. والقيمة الحقيقية هي مقياس لانخفاض القوة الشرائية للنقود. والقيمة الحقيقية هي القيمة السوقية العادلة (في حالة الدخل تمثل القيمة السلع والخدمات التي يمكن للفرد الحصول عليها من النقود التي لديه). أما القيمة التي تبنتها مدرسة الاقتصاد الكلاسيكي الحديث، قدم فشر وهو اقتصادي امريكي؛ منهجا يحتوى على ثلاثة مفاهيم رئيسة للدخل الخاص بالفرد وتشمل هذه المفاهيم، مفهوم الدخل المعنوي ويمثل الإشباع الذي يحصل عليه الفرد خلال فترة معينة، ومفهوم الدخل الحقيقي ويمثل ذلك القدر من السلع والخدمات التي يستهلكها الفرد خلال فترة ما بغرض إشباع حاجاته المختلفة، ومفهوم الدخل النقدي ويتمثل في التدفقات النقدية الصافية التي يحصل عليها الفرد خلال الفترة لمقابلة احتياجات.
    ويعنى المفهوم المعنوي للدخل بتحديد درجة الرفاهية التي يحصل عليها الفرد نتيجة لإشباع حاجاته خلال الفترة، وهذا المفهوم غير قابل للقياس المباشر وذلك لتأثر درجة الإشباع بعوامل كثيرة منها مستوى الدخل، بينما نجد أن الدخل الحقيقي يركز على الأحداث الخاصة بالفترة وهو بذلك يمثل الجانب المادي للإشباع الذي يحصل عليه الفرد. الدخل الحقيقي مقياس غير مباشر وتقريبي للدخل المعنوي. ويتم قياس الدخل الحقيقي عن طريق تحديد التكلفة المعيشية الخاصة بالفرد خلال فترة معينة؛ وهي تمثل تكاليف لأغراض قياس الدخل القيمة النقدية للسلع والخدمات خلال فترة معينة. من الواضح أن هذه المفاهيم ما هي إلا مراحل متعاقبة لنفس الظاهرة، فالدخل المعنوي من الناحية الفكرية هو الأساس بينما الدخل الحقيقي يمثل التعبير المادي لإشباع الحاجات ومرحلة ضرورية لأغراض القياس، والدخل النقدي يمثل الجانب التمويلي لتكاليف المعيشة. ويرى فيشر أن الدخل النقدي هو أكثر مفاهيم الدخل شيوعا إلا أن الدخل الحقيقي يعتبر هو المفهوم الملائم لأغراض المحاسبة. عموما يتفق الاقتصاديون على أن الهدف من قياس الدخل هو تحديد التحسن الذي طرأ على المشروع خلال فترة زمنية معينة، وهم بذلك ركزوا على الدخل الحقيقي، والمفهوم الاقتصادي للدخل يرجع تعريفه الي هكس الذى قال " أن الغرض من حساب الدخل من الناحية العملية هو إعطاء الأفراد مؤشرا عن المقدار الذي يمكنهم استهلاكه دون التسبب في جلب الفقر لهم، ووفقا لهذه الفكرة، يبدو من الضروري تعريف دخل المرء على أنه القيمة القصوى التي يمكنه استهلاكها خلال اسبوع مع البقاء عند نفس مستوى الثروة في نهاية الأسبوع كما كان في بدايته". معنى ذلك اننا في السودان يجلب إلينا الفقر يومياً؛ لأنه يوميا لن تكون في نفس مستوى الثروة بسبب انخفاض قيمة ما لديك من جنيهات.
    بهذا المفهوم اذا لا قيمة للجنيه يعتد بها وحتى تصبح قيمته عادلة لابد أن تقوم الدولة واصحاب العمل بتعديل أجر العامل دورياً مثلاً كل شهر أو شهرين بنسبة تعادل انخفاض قيمة العملة وذلك في حالة توقع التضخم حيث يمكن التحوط عند التعاقد بإجراء الدين بغير العملة المتوقع هبوطها. كأن يتفق العامل مع صاحب العمل على أن يعطيه زيادة على أجره كل آخر شهر بنسبة 3 في المائة أو 5 في المائة أو نحو ذلك من أجل المحافظة على أجر العامل من انخفاض قوته الشرائية، ويسمى هذا الاجراء بالربط القياسي للأجور.
ان ما تقوم به الحكومة من مراجعة الاجور بغرض زيادتها لا يفي بالغرض مطلقا، فزيادة الاجر لا تعني الوصول الى القيمة الحقيقة والعادلة للنقود، بل هي محاولة لذر الرماد في العيون واقناع اصحاب الدخل المحدود وبطريقة ملتوية أن دخلهم قد زاد، وزيادة الاجور كما ذكرنا في المقدمة تعني زيادة مقابلة في قيم السلع والخدمات. 

السبت، 12 نوفمبر 2011

ليبرالية حمدوك الاقتصادية


ليبرالية حمدوك الاقتصادية

                        د. عمر محجوب الحسين
            الليبرالية السياسية (Liberalism) كما نعرف هي مذهب سياسي يرعى استقلالية السلطة التشريعية والسلطة القضائية عن السلطات التنفيذية والاجرائية؛ والديمقراطية هي التطبيق العملي لفكرة اللبرالية السياسية، نسأل هنا سؤال لماذا وصف حمدوك وطاقمه بأنهم ليبراليون ؟ وباختصار لأنهم يدعون الى التحرر السياسي والاقتصادي. ورغم غموض مصطلح الليبرالية كما يقول دونالد سترومبرج الذى شبهه بمصطلح الرومانسية الذى لا يزال حتى اليوم في حالة من الغموض والابهام.
            الذى يهمنا من ليبرالية حمدوك السياسية هل هي بالضرورة مدخل لإدارة الشأن الاقتصادي ونقصد هنا الليبرالية الاقتصادية ( Economic Liberalism) التي هي مذهب فلسفي يرى انه ليس على الدولة تولى امر الصناعة والاستثمار ولا يحق لها التدخل في العلاقات الاقتصادية، وهذا المعنى هو اطار الليبرالية الكلاسيكية؛ اما الليبرالية المعاصرة مرتبطة بالعولمة من خلال تقليل تدخل الدولة في انتقال المال عبر الحدود للحصول على اعلى ربح، وتحقيق اكبر مصلحة؛ ولدينا مثال على ذلك الولايات المتحدة وحروبها الاقتصادية، واستفرادها بالقرار الاقتصادي العالمي منذ تخليها عن قاعدة الذهب في عام 1971م. وبهذا المفهوم نجد ان الليبرالية الاقتصادية ذات صلة بمفاهيم مثل جعل تدخل الدولة في الحد الادنى، ترك الاقتصاد يعمل بنفسه دون تدخل وتترك الأسواق تضبط نفسها بنفسها, وهذا هو (مذهب الاقتصاد الحر).
            وتحدث الناس عن ليبرالية حمدوك ايضاً بسبب خلفية حمدوك الذى كان مسؤولاً كبيراً في اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة، ووزير المالية البدوي الذى ينتمى الى صندوق النقد الدولي ومدرسة نظرياته الاقتصادية التي تنتمى الى المدرسة الفكرية الليبرالية؛ وكلام حمدوك عن الاستثمار والمستثمرين الاجانب وما قاله حرفياً حول انتقال المال "اذا ما حققت ربحاً وترغب في اعادة ربحك الى الخارج فسوف نكون منفتحين على ذلك", وذكر مسؤول أمريكي في حديث سابق لقناة (الحرة) " نتطلع الى مراجعة تفاصيل هذه الخطة (خطة حمدوك الاقتصادية) ومناقشة المقترحات مع الحكومة السودانية والشركاء الدوليين" وهذا قطعاً لن يكون إلا في اطار المنهج الاقتصادي الليبرالي. نأتي الان الى دراسة المحددات الاجرائية المتعلقة بالفعل الاقتصادي في مشروع البرنامج الاسعافي والسياسات البديلة في جانبه الاقتصادي الذى اعدته مجموعة من الخبراء والباحثين من قوى الحرية والتغيير للعام الاول الانتقالي؛ ففي السياسات المالية النقدية وعمليات الاستيراد، يتم الغاء منشورات بنك السودان المركزي ارقام 7/ 2018 و 12/ 2018 الخاصين بضوابط الاستيراد وتعديلات ضوابط تنظيم الاستيراد وهذا يعنى السماح بالدفع المقدم عند الاستيراد، والسماح بالاستيراد بالموارد الذاتية للعملاء بالنقد الاجنبي، ويعنى السماح للبنوك بتنفيذ عمليات الاستيراد دون موافقة البنك المركزي، وسمح بالاستيراد دون تحويل القيمة (Nil Value) وهذا سوف يحد من سيطرة وتحكم الدولة والرقابة على النقد؛ ايضا جاء من ضمن هذه السياسات التحرير الكامل لسعر صرف الجنيه مقابل العملات الاجنبية، الغاء الدولار الجمركي، تشجيع تجار العملة على فتح صرافات لبيع وشراء العملات الاجنبية، رفع الدعم عن البنزين تدريجياً من السنة الأولى، تتولى جميع الشركات العاملة في توزيع المواد البترولية مسؤولية تمويل استيراد المواد البترولية بالكامل، ومن غريب الامر ما جاء حول توفير مدخلات الانتاج المحلي الآتي  تتولى كل جهة، سواء كانت مصنعا أو مزرعة أو غير ذلك، توفير احتياجاتها من الخارج بتمويل ذاتي بعيدا عن الحكومة وعن طريق الجهاز المصرفي، وهذا تنصل من سياسة دعم الانتاج المحلى والاعتماد على المنتجات المستوردة وهذا استنزاف لموارد الدولة من العملات الاجنبية وهو ظاهر في سياسيه الاستيراد والسياسة المالية والنقدية المزمع اتباعاها، وايضا يجعل الإنتاج غير قادر على تحقيق ايرادات للدولة بحسب ان القطاع ليس لديه القدرة والمرونة في الحصول على قروض من خارج السودان خاصة قطاع الانتاج الزراعي، ايضا اشارات هذه السياسية الى إلغاء تسعير الأدوية بواسطة المجلس القومي للأدوية والسموم مما يجعل الدواء يرتبط بحركة تغير الاسعار دون رقيب، مع إعفاء الشركات المستوردة للأدوية المصنعة من الضرائب والرسوم الحكومية المفروضة على استيراد وتصنيع الأدوية وذلك طوال الفترة الانتقالية، ايضاً ذكر في من هذه السياسة الابتعاد عن أي نوع من التشجيع لزراعة القمح في السودان، حيث أنه ليس للسودان ميزة تفضيلية في زراعة القمح، والأجدى اقتصاديا استيراده وليست زراعته، ويعنى استيراده استنزاف مواردنا من العملة الاجنبية، حرية شركات المطاحن في تحديد سعر بيع الدقيق دون تدخل من الدولة، وتساهم الدولة بإعفاء شركات المطاحن من الضرائب والرسوم الحكومية طوال الفترة الانتقالية، كما يُعفى القمح من الرسوم الجمركية وجميع الرسوم الحكومية، ويعنى ذلك ترك اسعار الدقيق ومنتجاته نهباً لتغيرات اسعار السوق وضمناً رفع الدعم عن سلعة القمح. كل ما جاء بخصوص السياسة المالية والنقدية وسياسة الاستيراد تعتبر سياسات ومفاهيم السوق الحر وبالتالي مفهوم الليبرالية الاقتصادية، وكل هذه السياسية هي سياسات صندوق النقد الدولي المهلكة والتي لم طبقتها دولة إلا وفشلت اقتصادياً.
            ان اهم عيوب نظام السوق الحر الليبرالي، التي تُحدثنا عنها التجارب حول العالم في الدول الفقيرة والنامية، أنه يزيد من أزمات الفئات الفقيرة الاجتماعية، وزيادة الاحتكار من خلال التحكم في القطاعات الاقتصادية المختلفة، والتحكم في اسعار منتجات تلك القطاعات وبالتالي سوء توزيع الدخل بين افراد المجتمع، ونعلم أن قضية عدالة توزيع الدخل والثروة تمثل أحد أركان العدالة والتنمية والحفاظ على الديمقراطية.
            ان السياسات المالية والنقدية وسياسة الاستيراد وتوفير السلع الاساسية الواردة في مشروع البرنامج الاسعافي والسياسات البديلة لقوى الحرية والتغيير يمثل سياسة اقتصادية ليبرالية بامتياز، سوف تتبنى لأجلها الحكومة سياسة السوق الحر ووصفة البنك الدولي التي قال عنها جوزيف ستيجليتز الاقتصادي الأمريكي المعروف والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2001م انها وصفات للخراب الاقتصادي وأن من يدفع ثمنها هم الفقراء، فهل يتبع حمدوك الليبرالية الاقتصادية أم سوف يكتفي بليبراليته السياسية لأجل الشعب وثورته وثقتهم واملهم فيه ؟.

أثر خفض قيمة الجنيه على النمو الاقتصادي

د. عمر محجوب محمد الحسين https://sudanile.com/%D8%A3%D8%AB%D8%B1-%D8%AE%D9%81%D8%B6-%D9%82%D9%8A%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D9%8A%...