الثلاثاء، 26 مارس 2019

المال واخلاقيات الممارسة الطبية


          منذ أمد بعيد نظمت الحضارة الانسانية الممارسات الطبية من خلال وضع ما يمكن ان نسميه دساتير للأخلاقيات، ويأتي أولها قسم ابقراط المعروف على نطاق واسع في القرن الخامس قبل الميلاد، ثم وصية صلاح الدين الكحال الحموي، هذا وقد طورت العديد من المجتمعات رموزًا ترشد الطبيب أخلاقياً، وبالتالي تحدد "الأخلاق المهنية"، أو ما يطلق عليه بلغة اليوم الاحتراف؛ وعلى الرغم من أن الاحتراف تم تعريفه وتدريسه في العديد من كليات الطب، إلا أن هذا التقليد لم يمارس لحماية الحقل من إساءة استغلال الطبيب له من خلال موقعه وفعله. وقسم ابقراط ووصية صلاح الدين هي مبادئ اخلاقية تتعلق بالمهن الصحية شاملة لقيم الدين، الفلسفة، الثقافة والعقائد على اعتبار ان هذه القيم هي منبع الأخلاق، وهى اخلاقيات لا يمكن حصرها بأي حال من الاحوال على جانب الممارسة الطبية فقط، وهي تشمل امور كثيرة تتعلق بالخدمة المقدمة والقيمة العادلة لها وحماية حقوق المريض، وأن لا تعامل الرعاية الصحية كأنها سلعة أو منتج الهدف منه الربح فقط؛ لكن نقول أن الطبيب (يبحث عن دخل)، فلا مشكلة في ذلك طالما ان نشاطه يتم وفق قيم ومبادئ واخلاقيات المهنة، ويقدم خدمة في بيئة السوق الحر؛ وهذه النظرة دافع عنها الاقتصاديون التحرريون امثال روبرت نوزك (Robert Nozick) وميلتون فريدمان (Milton Friedman) الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، حيث قال ميلتون أن المسؤولية الاجتماعية الوحيدة للشركات هي زيادة ارباحها بقدر ما لا يوجد خداع أو احتيال.
          اذا نظرنا الى خدمات الرعاية الصحية نجد فيها الطبيب مقدم خدمة والمريض مستهلك لتلك الخدمة، ايضا بناء المستشفيات وتطوير الخدمات الطبية وشركات التأمين الصحي وهى جزء من هذه النظرة الاقتصادية الخاصة؛ لكن هذا الفهم وصفه بيليغرينو (Edmund Pellegrino) بأنه تجسيد للرعاية الصحية، حيث اثيرت اسئلة مثل هل الرعاية الصحية سلعة مثلها مثل السلع التي تباع، وهل تتحكم اخلاقيات السوق في الرعاية الصحية، وقال بيليغرينو أن الرعاية الطبية ليست سلعة لأن السلعة التي تباع في العادة لا تمثل علاقة بين البائع والمشتري وهى علاقة عابرة، وهذا لا ينطبق على علاقة الرعاية الصحية وتفاعل الطبيب والمريض؛ ايضاً وصف السلعة بأنها ملكية خاصة اي ان البائع يملك ما يبيعه وهذا لا ينطبق على سيناريو الرعاية الصحية حيث لا يملك الطبيب كامل ما يبيعه بمعنى أن المعرفة الطبية تتكون في إطار عقد اجتماعي بين المجتمع بشكل عام والطبيب، وقال أنه من الأفضل وصف الرعاية الصحية على أنها تشتمل على علاقة ائتمانية تعمل لصالح مستخدمها أي المريض.
          دفعنا لهذه المقدمة بعض الممارسات السالبة، التي انتظمت حقل الرعاية الصحية في السودان، وهى ممارسات ذات اثر مادي وطبي على المريض وأهله، وسوف نورد هنا بعض الأمثلة الشائعة؛ مثل قدوم المريض لمقابلة طبيب محدد في مستشفى معين، ويدفع الرسم المقرر للمقابلة ويجلس منتظراً وعند السماح له بالدخول يجد طبيباً آخر غير الذى جاء من اجله، وهو دفع مقابل مادى لطبيب محدد (سلعة ان جاز التعبير)، واشبهه بما يعرف في العرف التجاري (I isn't as described )؛ وهو مبدأ يتعلق بحق المريض في العلم بنطاق الخدمة وتوفرها، ومن حق المريض على موظف الاستقبال اخطاره مسبقاً بعدم وجود الطبيب المعني. أيضاً نلاحظ وجود فواتير او اوراق ذات ترويسة تخص طبيب في مستشفى آخر أو معمل تحليل معين أو صيدلية، يتم تعبئتها بمعرفة الطبيب لصالح جهة اخرى دون استشارة المريض أو مرافقيه، وهذا الاسلوب يدفع المريض الى جهة معينة لإجراء الفحص المطلوب أو التحليل، أو لشراء دواء من صيدلية محددة، وهذه ممارسة قديمة وشائعة؛ واذا احسنا الظن ربما تكون ممارسة لأطباء يتمتعون بأخلاقيات مهنية وهدفهم الوصول الى تحليل ذو كفاءة لكن نقول يجب اخطار المريض بالسبب حتى يكون على دراية وعلم؛ كذلك هناك ظاهرة جد شائعة وهى عدم الالتزام بالمواعيد سواءً لمقابلة المرضى او لإجراء العمليات فكثيرا يأتي بعض الاطباء متأخراً عن الموعد بساعات ويتعلل بأنه كان في مستشفى أخر، ويفترض أن تكون الخدمة في مواعيدها حسب القيمة المدفوعة ومواعيد العيادة، كما يتم الغاء كثير من العمليات الجراحية ليس لأسباب طبية ولكن لأسباب اخرى لا علاقة للمريض بها؛ ايضاً هناك ظاهرة طلب تحاليل أو فحوصات فوق المعدل بهدف تشغيل قسم معين لزيادة الايرادات في المستشفى أو مساعدة عيادة صديق أو في اطار انشاء شراكات مع مستشفيات او عيادات اخرى لا دخل للمريض بها، او ان الطبيب قليل الدراية والخبرة؛ وفي كلا الحالتين هي تحاليل لا ضرورة لها في احيان، تستنزف موارد المريض واهله؛ وهناك ظاهرة عدم احالة المريض الى الطبيب الأكثر خبرة والمختص عندما تتجاوز حالة المريض قدرات الطبيب الأول المهنية لإبقاء المريض في عيادته او المستشفى الذى يتبع للطبيب؛ وهناك ظاهرة الاعلان عن مستوى خدمة يختلف تماما عن المستوى الفعلي للخدمة الطبية أو مكان اجراء الخدمة الطبية، او الاعلان عن وجود طبيب قادم من بلد ماء خاصة البلاد الاوربية دون الالتفاف الى قدراته المهنية حيث تجد معلومة البلد القادم منه تسبق المعلومات الاخرى، ومحاول اظهار هذه المعلومة على انها تشكل ميزة اضافية لقدرات الطبيب، ايضاً يدفع بعض الاطباء المريض الى شراء دواء بعينه ولا يقبل غيرها حيث يكون له مصلحة مع شركة الادوية في شكل تذاكر سفر او هدايا.
          هذه المقالة ليست للإساءة الى اطباء بلادي لكن لإلقاء الضوء على بعض الممارسات التي تضر بالمريض في ظل هذه الظروف الاقتصادية؛ فمن الواجب حماية حقوق المريض، وخاصة مع تزايد حالات الاعتداء على الاطباء التي نرفضها وندينها بشدة، لكن ربما لها مسببات يرتبط بعضها بما ذكرناه من ممارسات في الحقل الطبي.

الأحد، 17 مارس 2019

الاقتصاد الدائري وتعزيز التنمية المستدامة


          الاقتصاد الدائري (Circular Economy) هو نظام اقتصادي يهدف إل اعادة بناء رأس المال وتحسين عوائد الموارد وتحقيق الاستفادة القصوى منها وذلك بالتقليل والحد من النفايات من خلال تدوير المنتجات والمواد الخام المستخدمة في جميع المراحل؛ هذا المنهج الاقتصادي التجديدي ربما يتناقض مع اساليب الاقتصاد الخطي التقليدي الذى يبحث في الاستخدام الامثل للموارد المادية والبشرية بغرض الربح، وهو يقوم على الانشطة البشرية التي تشمل الإنتاج والتوزيع وتبادل السلع واستهلاك السلع والخدمات، وهذا النشاط هو نموذج (خذ، اصنع، تخلص)، والامثل تعنى التعامل مع الموارد كأصول انتاجية حيث يتم تقييمها تقييماً نقدياً في السوق؛ ولا شك أن هذا النموذج هو نموذج استهلاكي بامتياز لا يراعى النتائج البيئية المدمرة سواء من ناحية استهلاك الموارد او النفايات، خاصة وأن التقارير والدراسات الدولية تشير الى ان 90 في المائة من المواد الخام المستخدمة في التصنيع تتحول إلى نفايات قبل أن يخرج المنتج من المصانع، و80 في المائة من المنتجات يتم التخلص منها خلال الأشهر الستة الأولى من الاستخدام. ولابد أن ننوه هنا الى ان الاقتصاد الدائري لا يتصدى بشكل مباشر لمشكلة الاضرار بالبيئة والتلوث، ولا مشكلة استنزاف الموارد الطبيعية؛ حيث ان هذه المشاكل تصدى لها فرع من علم الاقتصاد عرف بعلم الاقتصاد البيئي الذى يقيس الجوانب النظرية والتحليلية والمحاسبية للحياة الاقتصادية بهدف المحافظة على التوازن الذى يضمن النمو المستدام؛ وفي الاقتصاد الدائري يتم الانتاج بنظام دائري يتم فيه الحد من مدخلات المواد والنفايات والانبعاثات وتسرب الطاقة من خلال منظومة تشمل ابطاء استهلاك الطاقة واغلاق حلقات الطاقة والموارد (دورات حياة المنتج) بإعادة التدوير والاستخدام، وتحقيق منافع لكل من البيئة والاقتصاد، ويتطلب ذلك نظام طويل المدى.
          يشير انصار الاقتصاد الدائري إلى أن أهداف الاستدامة لا تعني انخفاضاً في نوعية الحياة للمستهلكين، ويمكن تحقيق الاستدامة دون خسارة في الإيرادات أو زيادة في التكاليف الصناعية؛ على اعتبار أن نماذج الأعمال الدائرية يمكن أن تكون مربحة من خلال علاقات المتغيرات الاقتصادية المنطقية والكمية التي يرتبط بعضها ببعض، مما يسمح بالاستمرار في التمتع بمنتجات وخدمات مماثلة. ومثال على ذلك البلاستيك في الاقتصاد الدائري بتعديل طريقة إنتاج المنتجات البلاستيكية، بحيث يتم إنتاجها واستخدامها وإعادة تدويرها من خلال استراتيجية تتخذ في مجملها إجراءات لتحسين اقتصاديات إعادة تدوير البلاستيك؛ للحد من النفايات البلاستيكية والقمامة؛ ولدفع الاستثمارات والابتكار؛ وتسخير الجهود للحد من تسرب المواد البلاستيكية إلى البيئة. وحتى ينتقل السودان إلى الاقتصاد الدائري لابد من وضع استراتيجية وتكوين منصة لأصحاب المصلحة الاقتصادية الدائرية لتكون بمثابة مساحة افتراضية مفتوحة تهدف إلى تعزيز الاستدامة من خلال تسهيل الحوار حول السياسات بين أصحاب المصلحة ونشر والتعريف بالأنشطة والمعلومات والممارسات الجيدة في الاقتصاد الدائري. ويمكن لأصحاب المصلحة المشاركة في المنصة من خلال المشاركة في المؤتمرات والتفاعل مع الانظمة والمنظمات العالمية واكتشاف الممارسات الجيدة، والتواصل مع أصحاب المصلحة الآخرين حول العالم ومشاركتهم تجاربهم، ايضاً المساهمة في جمع أفضل الممارسات في الاقتصاد الدائري، لزيادة الوعي حول الاستراتيجيات الخاصة بممارسات الاقتصاد الدائري الإقليمية والدولية، وتحديد التحديات والفرص للانتقال إلى الاقتصاد الدائري بين صناع السياسات والشركات والنقابات والمجتمع المدني.   
          ايضاً ايجاد إطار التشريعي بشأن النفايات، ووضع أهداف قومية واضحة للحد من النفايات وإنشاء مسار طموح طويل الأجل لإدارة النفايات وإعادة تدويرها، ويجب أن تتضمن العناصر الرئيسية المقترحة للنفايات أهدف لإعادة التدوير إعادة تدوير نفايات التغليف التي تشمل مواد الورق والكرتون، المعادن الحديدية، الألومنيوم، الزجاج، البلاستيك، الخشب. ايضاً وضع متطلبات الزامية يتم فيها تحديد الحد الأدنى من المتطلبات وتوسيع نطاق مسؤولية المنتجين لتحسين اطر الحوكمة وفعالية التكلفة؛ كما يجب تعزيز الوقاية وأهدافها على وجه الخصوص من خلال اتخاذ تدابير محددة لمعالجة فضلات الطعام والمخلفات العضوية لإنتاج الغاز الحيوي الذي يمكن ترقيته بسهولة إلى غاز طبيعي، كما يمكن تحقيق المزيد بمعالجة مركبات الفضلات العضوية المتبقية وتحويلها إلى أسمدة عضوية عالية الجودة تحل محل الأسمدة الكيميائية لإعادة خصوبة التربة، لا سيما في الاراضي الزراعية المنهكة؛ ويمكن استخدام التقنية ذاتها بل والبنية التحتية ذاتها للمعالجة المشتركة للنفايات العضوية المحلية الصلبة وترسبات المصارف؛ ويعد الاستثمار المبدئي في إنشاء مراكز للطاقة الحيوية واحد من العديد من الاستثمارات المصاحبة لإنشاء مكبات القمامة، كمثال لتحقيق أهداف التنمية المستدامة التي تسعى اليها الأمم المتحدة. ونذكر هنا ان الاقتصاد الدائري واهدافه لا تتقاطع مع مصالح اصحاب الاعمال التجارية، بالنظر الي الإيجابيات التي تتمثل في الإسهام في توفير التكاليف، وايجاد مصادر جديدة للدخل، وتعزيز العلاقات مع أصحاب المصالح، إضافة إلى تعزيز دور الشركات في منظومة الاستدامة وتعزيز علاماتها التجارية وابتكاراتها في ظل اطر حقوق الملكية الفكرية. ومن ضمن الاستراتيجيات على سبيل المثال لا الحصر، استراتيجيات الطاقة المتجددة، كخطط استخدام طاقة الرياح والطاقة الشمسية وتحويل الكتلة الحيوية إلى طاقة، للحد من الاعتماد على المحروقات.
          ووفقا لدراسات صينية حول التنمية المستدامة فإن تطوير الاقتصاد الدائري في الصين سيسهم في إطلاق سبع صناعات جديدة وهي صناعة البيئة، وإعادة تدوير المخلفات، وتوفير الطاقة وخفض استهلاكها، والطاقة المتجددة، والصحة، والاقتصاد الخدمي، والتصميم والابداع والابتكار. ايضاً جاء في تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي ومؤسسة الين مكارثر أن حجم الاقتصاد الدائري سوف يصل الي تريليون دولار بحلول عام 2025م، وسيولد 100 ألف وظيفة جديدة خلال خمس سنوات. وجاء أيضا في تقرير آخر للمفوضية الأوروبية أن الاقتصاد الدائري سيحد من انبعاثات الكربون في الاتحاد الأوروبي وحدها بما يقارب 450 مليون طن سنويا، وتحقيق منفعة تصل إلى 4.1 تريليون يورو بحلول عام 2030م. فمتى نتبنى المنهج الفكري ونلحق بركب الاقتصاد الدائري لتحقيق الاستدامة والاستفادة اقتصادياً منه والاسهام في التصدي للبطالة وتقليل الكلفة البيئية.

أثر خفض قيمة الجنيه على النمو الاقتصادي

د. عمر محجوب محمد الحسين https://sudanile.com/%D8%A3%D8%AB%D8%B1-%D8%AE%D9%81%D8%B6-%D9%82%D9%8A%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D9%8A%...