الجمعة، 22 فبراير 2019

حيوية الملكية الفكرية والنمو الاقتصادي

          الناظر الى موارد السودان الطبيعية يقف مندهشاً من ضخامتها وتنوعها ومشدوهاً من عدم استغلالها والاستفادة منها اقتصادياً، وعلى العكس من ذلك ظل الاقتصاد يتدهور ويتراجع من اسوأ الى اسوأ بسبب السياسات الاقتصادية والمالية غير الراشدة، ونذكر هنا أن المشكلة الاقتصادية ترتبط عادة بالندرة النسبية للموارد الطبيعية، والسودان بموارده الطبيعية المتنوعة لا يجب أن تكون فيه ندرة؛ هذا من الناحية العامة، لكن ثمة مشاكل اخرى متعلقة بإحدى ركائز القوى الدافعة للاقتصاد الا وهى الملكية الفكرية المتصلة بالمعرفة؛ والملكية الفكرية بحسب الويبو (المنظمة العالمية للمنتجات الفكرية) " هي ابداعات العقل من اختراعات ومصنفات ادبية وفنية وتصاميم وشعارات وأسماء وصور مستخدمة في التجارة". أما المعرفة فهي تضم المعلومات والحقائق والمهارات المكتسبة من خلال التعليم والخبرة والفهم النظري والعملي، وهي التي تحفز الابداع الابتكار؛ وسعت الويبو من خلال مؤشر الابتكار الي التوعية بأهمية الابتكار في النمو الاقتصادي، وادارة حوار حول أفضل الوسائل لإقامة منظومة ابتكار حيوية باعتبارها احد فروض الملكية الفكرية الرئيسة، ومؤشر الابتكار اصبح اداة عالمية رائدة لقياس الابتكار؛ لذلك هنالك علاقة متبادلة بين حيوية الملكية الفكرية والنمو الاقتصادي للدول؛ حيث يُؤكد الباحثون أن القوة الدافعة وراء النمو الاقتصادي هي المعرفة ورأس المال البشري. وفي هذا المجال نلاحظ تجربة سويسرا التي يعتبر اقتصادها واحد من الاقتصادات الأكثر استقراراً في العالم رغم مواردها الطبيعية المحدودة؛ صحيح أن الاستقرار الأمني والسياسي والنقدي على المدى الطويل مكنها من تحقيق ذلك الاستقرار؛ لكن يعود الفضل الكبير في النجاح الاقتصادي الكبير لسويسرا إلى استثمارها في رأس المال البشري، فقطاع الخدمات السويسري في غاية التطوّر والتقدم حيث هناك البنوك وشركات التأمين التي تُـزاول نشاطها على المستوى الدولي؛ أيضاً لعبت الملكية الفكرية دورا متزايدا في نشاطها التجاري الدولي، من خلال التصنيع في مجال انتاج الموارد الكيميائية المتخصصة والصحة والادوية والسلع العلمية وأدوات القياس الدقيقة والآلات الموسيقية، وتعتبر المواد الكيميائية هي اكبر السلع المصدرة حيث تبلغ 34 في المائة من السلع المصدرة، أما قطاع الخدمات فيشكل ثلث الصادرات السويسرية بنسبة 28.2 في المائة،  وقطاع الآلات والالكترونيات نسبة 20.9 في المائة، والأدوات الدقيقة مثل الساعات تبلغ نسبتها 16.9 في المائة؛ اما الأعمال المصرفية وقطاع التأمين والسياحة، والمنظمات الدولية هي صناعات أخرى مهمة تتميز بها سويسرا.
          إن الأدوية المسجلة ببراءات اختراع، والسلع التي تحمل علامات تجارية قوية، والمؤلفات اصبحت تسيطر على التجارة العالمية؛ ففي السودان ليس لدينا علامة تجارية واحدة حتى وسط اقليمنا ومحيطنا الأفريقي والعربي، واذا اشتهرنا بسلعة تكون هبة طبيعية من الخالق كالصمغ العربي او الماشية وغيرها، لكن لا علامة تجارية في مجال الادوية ولا مجال التكنلوجيا ولا أي مجال يذكر؛ مع اليقين أنه لا تنقصنا العقول وقادرين على الابداع؛ وما ذكرناه أمثلة قليلة على الدور التي تلعبه الملكية الفكرية، حيث تتعدد اوجه ومجالات انتاج الملكية الفكرية.
          تعتبر الملكية مهمة للأعمال التجارية لأنها أصول غير ملموسة يمكن استغلالها مالياً حيث تعتبر من الممتلكات المادية التي يمكن بيعها أو ترخيصها. وكل عمل تجاري قد يمتلك هذه الأصول سواء كانوا على علم بها أم لا؛ فعندما تقوم شركة ما بتأسيس وجودها في السوق، يعد الحفاظ على حقوق الملكية الفكرية وإدارتها أمراً بالغ الأهمية حيث يمكن أن يمثل ذلك فرقاً بين النجاح أو الفشل. ولهذا السبب من المهم أن تفهم الشركات الأشكال المختلفة للملكية الفكرية لأن بعضها يشتمل على عملية تطبيق رسمي وفحص قبل أن يتم تسجيل الحق، في حين أن البعض الآخر يلعب دوره دون الحاجة إلى عملية تسجيل. وتشير كثير من الدراسات والنشرات حول حماية حقوق الملكية الفكرية التي تنشر عبر المراكز المختصة بالبحوث إلى أن القيمة المالية للملكية الفكرية المتراكمة من التراخيص والبراءات يعتبر سبباً قوياً لحماية حقوق الملكية الفكرية. كما أن هذه القيمة المالية تساهم وبشكل كبير جداً في دعم اقتصاديات الدول. حيث تعتمد العشرات من الصناعات في اقتصاديات الدول على تطبيقات براءات الاختراع والعلامات التجارية وحقوق التأليف والنشر، بينما يستخدم العملاء الملكية الفكرية لضمان شراء منتجات آمنة ومضمونة؛ لذلك نجد أن حقوق الملكية الفكرية مهمة، لأن الملكية الفكرية تدفع النمو الاقتصادي وتعزز التنافسية، تحمي المستهلكين والعائلات، تساعد على تحسين وانقاذ حياة الناس حول العالم، تشجيع الابتكار وتمنح رجال الأعمال مكافآت وتفتح لهم آفاق للاستثمار.
          إن حماية الملكية الفكرية قضية مهمة يجب أن يحققها ائتلاف مصالح قطاعات الصناعة، الشركات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، والنقابات العمالية وجمعيات المستهلكين والمنظمات الدولية والجمعيات التجارية؛ ونذكر هنا أن عدم توفر الحماية الكافية لحقوق الملكية الفكرية يؤثر على مختلف القطاعات، وتلحق الضرر أولا وقبل كل شيء بمبدعـي ومنتجي الملكية الفكرية، وذلك لعدم قدرتهم على منع سرقة انتاجهم الفكري .يضاف إلى ذلك أن عدم كفاية الحماية تلحق الضرر بكل قطاع الأعمال في الدولة بما في ذلك القوى العاملة فيها. ونذكر هنا ان منظمة الويبو نشرت تقريراً في نوفمبر من عام 2017م يتعلق بدور راس المال غير الملموس في سلاسل القيمة العالمية، وهو تقرير يسعى الى تحليل دور الملكية الفكرية في الاسواق الاقتصادية، وهي تقديرات عن قيمة رأس المال غير الملموس المشمول بحماية الملكية الفكرية وهو يشكل نحو ثلث السلع المصنعة والمنتجة والمباعة حول العالم؛ وتشكل هذه الحصة ضعف الحصة القائمة على رأس المال المادي التقليدي. إن أحد أهم الخطط والخطوات في العصر الحالي والمستقبل هو التحرك نحو مجتمع المعرفة، وضمن هذا الاقتصاد الجديد يحتفظ الابتكار بدوره ويعززه كأداة فاعلة رئيسة للمنافسة ذات الندية، كما أن احترام حقوق الملكية الفكرية والاهتمام بالمعرفة هو أحد الخيارات الأساسية لتعزيز التجارة والنمو الاقتصادي من خلال الابتكار والابداع.

السبت، 9 فبراير 2019

هل نجحت قطر في عبور حالة الحصار؟

          كانت المقاطعة الدبلوماسية والحصار الاقتصادي على دولة قطر من الدول التي تربطها بها علاقات جوار وصلات قربى؛ ولكن رغم الإحساس بالمفاجأة والمرارة بهذا الحصار، لم يكن هذا الحصار وبالاً على قطر ولم يشكل لها سوى معرفة نوايا الجيران الحقيقية وماذا يضمرون تجاهها؛ إذ أثبتت نتائج هذا الحصار مدى قدرتها على تخطي الأزمات، ومدى تفوقها وعلو شأنها إعلامياً ودبلوماسياً ومدى قدرتها على ضبط النفس. وأظهرت الأزمة مدى قدرات الكوادر القطرية ومهاراتها في مجابهة كل الظروف، وكان الجيران يحسبون أنها سوف تنهار في سويعات رغم قناعتهم بتفوقها الإعلامي والرياضي وهذا ما دلت عليه مطالباتهم بإيقاف قناة الجزيرة وسحب تنظيم كأس العالم من قطر من خلال حملة مسعورة وعمياء أثارت السخرية؛ لكن فاجأتهم قطر بمستوى الدبلوماسية وحصافة كوادر وزارة الخارجية  ابتداءً من وزير الخارجية ومندوبة قطر لدى الامم المتحدة ومندوبها لدى الجامعة العربية، واللجنة الوطنية لحقوق الإنسان، انتهاءً بشعبها وتعاطيه مع الأزمة وتعامله من خلال وسائل التواصل الإلكتروني مع ما يعرف بالذباب الالكتروني.
          فدول الحصار حاولت الإضرار بالشعب القطري والمقيمين داخل الدولة من خلال منع إمدادات الغذاء والمواد التموينية والدواء التي كانت تأتي من هذه الدول؛ ولم تتأخر ردة الفعل الإيجابية ففي اليوم التالي للحصار أطلقت وزارة الاقتصاد والتجارة القطرية حملة (معاً لدعم المنتجات الوطنية ) وما كان لها أن تنجح لولا إدراك الشعب القطري والمقيمين لحجم الظلم الذي حدث، وحبهم ووقوفهم خلف قيادتهم الشابة الواعية؛ فمن خلال هذه الحملة تم وضع ملصقات على كافة المنتجات الوطنية تحمل شعار (منتج وطني) وبهذه الحملة عرفنا أن هناك منتجات قطرية كان يحسبها الناس أنها ليست منتجات قطرية، وبذلك التفت الناس إلى المنتجات الوطنية ودعمها دعماً منقطع النظير نتيجةً حتميةً لظلم الحصار؛ ورغم أنه في تلك الأيام التالية للحصار كانت هناك منتجات من دول الحصار لا زالت على رفوف المحال التجارية ولم يكن هناك تعامل بردود الأفعال من الدوائر المختصة بدولة قطر بإصدار أوامر للمحال للتخلص من هذه المنتجات، أو حملة لتوجيه الناس بعدم شراء هذه المنتجات الخاصة بدول الحصار؛ وهذا يدل على مدى حكمة القائمين على الأمر ومدى قدرتهم على التعامل مع الأوضاع  الطارئة دون رد فعل يعمى البصيرة.
          ونذكر هنا أن قطر أدركت منذ أمد طويل أن المال فقط لن يحقق المشروعات الرأسمالية؛ لذلك نجدها منذ أن وضعت رؤيتها، كان هدفها هو خلق اقتصاد معرفي متنوع أساسه التعليم، يخدمها خدمة مستدامة دون التركيز على المال في المقام الأول؛ ولا شك أن هذا الاتجاه حفزه الحصار الذي أتاح لقطر فرصة ثمينة لاكتشاف القدرات الإدارية والتنظيمية والاقتصادية الكامنة لدى قياداتها، وهذا يعنى تمكن الدولة من التحصن ضد الأزمات؛ واتضح أيضاً مدى وحجم الفجوة في التفكير العقلاني بينها ودول الحصار. واللافت أن قطر لم تتقوقع وتنغلق على نفسها أبان الأزمة لكن استمرت رعايتها لمشاكل الدول الأخرى، وكذلك لم تنقطع مساهماتها الإقليمية والدولية.           
          إن الحصار الظالم الذى فرضته دول الحصار كان له أثر إيجابي على الاقتصاد القطري من عدة جوانب لا يخطئها المتابع، حيث نجحت قطر وفى غضون بضعة أيام فقط من فرض الحصار في ابتكار واكتشاف طرق تجارية بديلة ومباشرة مع عدد من مناطق الانتاج الاستراتيجية البديلة في جميع أنحاء العالم، مستفيدة من معبرها الجوي المتميز (مطار حمد الدولي) الذي يعد من أفضل المطارات حول العالم لضمان استمرار حركة الطيران واستقبال البضائع بوتيرة طبيعية لأكثر من 150 وجهة حول العالم عبر الخطوط الجوية القطرية. نعم لقد كان الحصار فرصة وليس أزمة اقتصادية؛ فرصة للسير بثقة واكتشاف لروح الإرادة والعزيمة، وها هي مشاريع تنظيم كأس العالم لم تتوقف، وها هي الموضوعات المتعلقة بحقوق الانسان تستمر.
          كان الحصار من الناحية الاقتصادية فرصة لرجال الأعمال والمستثمرين في مختلف الأنشطة الاقتصادية، كما كان فرصة ثمينة لاكتشاف أسواق جديدة ومنتجات أفضل، وإنشاء مشروعات قوية كسرت الحصار وفي وقت وجيز كمشروع بلدنا للألبان على سبيل المثال لا الحصر، وكانت هذه المشروعات والمبادرات تحت رعاية غرفة تجارة وصناعة قطر التي تميز أداؤها منذ بداية الحصار بالفعالية من خلال إتاحة الفرص الواعدة للمنتجين ورجال الأعمال؛ كما نشط بنك التنمية الصناعية من خلال تقديم فرص خصصت للزراعة المنزلية، وهو برنامج هدفه نشر ثقافة الزراعة لدى المواطن القطري باعتبارها خطوة لتعزيز الاكتفاء الذاتي من المنتجات الزراعية.

          هذا الثبات والصلابة لم تكن في المجال الاقتصادي فقط، بل كانت في المجال الثقافي والسياسي والرياضي، ولم تتوقف أية فعالية ثقافية أو سياسية أو رياضية، بل استمر العطاء باقتدار لأن الأهداف سامية والروح عالية، والحراك ليس عشوائياً. وها هو منتخب قطر الوطني يتربع على أعلى قمة كروية لآسيا بإحرازه لبطولة كأس اسيا 2019م؛ وهذه البطولة المستحقة لم تكن صدفة بل نتيجة عمل دؤوب وجهد وتخطيط سليم، ويأتي إحراز البطولة بالعلامة الكاملة رغم الظروف السياسية المحيطة، والضغوط التي تعرض لها لاعبو المنتخب والتي من بينها حرمانهم من تشجيع جمهورهم.   

          لقد كان الحصار رغم ظلمه ليس أزمة بالنسبة لقطر، إذ مثل فرصة واعدة أتاحت إمكانية تحديد مواطن القوة وتعزيزها، ومعالجة أوجه القصور بما يضمن المحافظة على مرونة الاقتصاد القطري والنمو المستدام لمواجهة مختلف التحديات الاقتصادية الإقليمية والعالمية؛ وعليه فقد ومثل الحصار بداية خطوات السير بثقة أكبر وبلور مهارة اكتشاف مدى قوة روح الابتكار والإرادة لدى القطريين الذين تقف وراءهم قيادة شابة حكيمة وواعية، وظهر ذلك من خلال الدبلوماسية، والقدرة الإعلامية الراشدة، والقوة الاقتصادية، والابداع والابتكار حتى في ظل الحصار؛ فرب ضارة نافعة.

السبت، 2 فبراير 2019

أثر وخطورة الدين العام على الاقتصاد

          الدين العام هو حجم ديون الدولة المستحقة للمقرضين الداخليين والخارجيين الواجب سدادها، والدين الخارجي يتمثل في المبالغ المستحق لصالح الحكومات أو المؤسسات الدولية والقطاع الخاص الخارجي. ولأسعار فائدة هذه القروض تأثير كبير على الديون الخارجية والدين الخاص. فإذا ارتفعت أسعار الفائدة على الدين العام ارتفعت اسعار الفائدة بدورها على الدين الخاص، وبالتالي على مجمل الوضع الاقتصادي لأي دولة. لذلك تسعى المنظمات المانحة الى جعل ديون الحكومات في نطاق معقول؛ ويتم قياس درجة المخاطر في اي اقتصاد من خلال مقارنة الدين العام منسوبا الى الناتج المحلي الاجمالي، لذلك نجد ان الناتج المحلي الإجمالي يعتبر مؤشراً مهماً لمدى قوة الاقتصاد وقدرته على مواجهة الصدمات، ومدى قدرة الدولة على سداد ديونها؛ ومؤشراً لوضعها وتصنيفها الائتماني. ويعتبر الدين العام المحلى والخارجي خطيراً بالنسبة الى الدول النامية اذا تخطى الحد الادنى المسموح به، وحد الامان المسموح به في حدود 60 في المائة بالنسبة للدول النامية؛ و90 في المائة للدول المتقدمة؛ ايضا يمكن قياس المخاطر بمقارنة معدل نمو الناتج المحلى ومعدل نمو الدين العام؛ ووضع الأمان يكون بتساوي المعدلين.
في السودان الدين الخارجي يبلغ 54.8 مليار دولار في عام 2017م وتخطى المؤشرات الارشادية ووصل الى ما نسبته 166في المائة من إجمالي الناتج المحلى؛ متأخر منها عن السداد ما نسبة 85 في المائة؛ ويبلغ حجم الدين العام حوالى 116 في المائة من إجمالي الناتج المحلى أي زيادة عن الحد المسموح به بحوالي 56 في المائة، علماً بأن فوائد هذه الديون تبلغ 49 في المائة من اصل الدين. وحجم هذا الدين العام لاشك احد اهم المؤثرات على الحالة الاقتصادية المتردية في السودان؛ حيث أثر على الوضع الائتماني للسودان الذى تصنفه أهم ثلاثة وكالات عالمية للتصنيف الائتماني عند مستوى (CCC) ويعني هذا المستوى احتمال عالٍ لعدم السداد(مخاطرة عالية جدا). وتنبع أهمية هذا التصنيف الذى يصدر عن هذه الوكالات في أنه يؤثر بشكل مباشر على القدرة في الحصول على القروض من المؤسسات الدولية والمقرضين، وعلى البنوك والمؤسسات المالية المحلية سواء لأغراض الاسواق المحلية أو الدولية، فكلما ارتفع التصنيف الائتماني قلت مخاطر عدم السداد، واذا انخفض التصنيف زادت مخاطر السداد. أيضا التصنيف الائتماني للشركات داخل بورصات العالمية يكمن في تأثيره المباشرة على سعر اسهم تلك الشركات وبالتالي وضعها المالي حيث ان المستثمرين يحجمون عن شراء اسهم الشركة اذا انخفض تصنيفها الائتماني، والعكس صحيح.
          من ناحية اخرى نجد ان خدمة الديون سيحول النفقات العامة من القطاعات الاجتماعية للصحة والتعليم، وربما من الاستثمار العام. لذلك نجد ان تأثير الديون له آثار سالبة على القطاع الاجتماعي وبشكل قوي ومباشر خاصة وان هذا القطاع يمثل أكبر استجابة للناحية المالية بين جميع المتغيرات التفسيرية الأخرى لقياس المساعدات الخارجية، ويأتي ذلك بسبب تخلى الحكومة عن دورها في القطاع العام وتبنى احدى منظومات العولمة المتمثلة في الخصخصة؛ وتخلى الدولة عن القطاع العام لاشك انه تخلى عن مهمتها الاجتماعية، ومن أهم الآثار الاجتماعية للدين الخارجي تحديداً هو أثره على سوق العمل والتشغيل على اعتبار أن الكسب من العمل يمثل المصدر الرئيسي لدخل غالبية افراد المجتمع؛ وأن حرمانها من هذا الدخل ينتج عنه زيادة البطالة بأنواعها وظهر هذا جليا بعد بيع مؤسسات القطاع العام وتصفيتها، وتبع ذلك تفاقم حدة الفقر؛ أيضا احدث ذلك المزيد من الاختلالات في توزيع الدخل واتساع الهوة بين طبقات المجتمع  التي احدثتها الهرولة الى الخصخصة والفساد المالي والمؤسسي.
          ولا تعكس الزيادة في الدين العام وحجمه فقط زيادة الاقتراض؛ لكن ايضاً تعتبر مؤشراً واضحاً على تباطؤ الانتاج نتيجة لتطبيق سياسات انكماشية تتضمنها برامج المؤسسات الدولية الدائنة مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ونادي باريس ونادي لندن؛ خاصة في المراحل الأولى لهذه الديون, مما ادى إلى خفض الطلب المحلي وزاد من حدة الركود الاقتصادي الذي ادي بدوره إلى تراجع الطلب على العمل تبعه اتجاه تصاعدي للبطالة. واصبحت خدمة الدين تلتهم جزءاً مقدراً من حصيلة الصادرات من السلع والخدمات وهذا يفسر عجز الموازنة المفرط والمتصاعد. ولا شك أن هذا الوضع شكل مكابح لخطط التنمية المستقبلية، نظرا لابتلاع خدمة الدين الخارجي النقد الأجنبي. ويمكن تشخيص آثار المديونية الخارجية على الخطط الإنمائية من خلال تحليل آثارها على الادخار المحلي والقدرة الاستيرادية، وعلى سعر صرف الجنيه وتدهوره المستمر وبصورة كبيره من حيث الزمن والقيمة، ومعدلات التضخم التي وصلت الى 64 في المائة، وهناك استحالة وشك كبير في قدرة الحكومة وفي ظل سياساتها على خفضه الى 27 في المائة كأحد أهداف موازنة 2019م.
          ايضا اعتماد السودان على القروض الخارجية أدى إلى تزايد معدلات التضخم الكبيرة, لما تشكله هذه القروض والمديونية المترتبة وخدمة هذه الديون من ضغط على القدرة التنافسية لصادرات السودان، وادي تخفيض قيمة الجنيه نتيجة للاستجابة لضغوط الدائنين إلى تدهور القيم الحقيقية للمدخرات مما اضطر العديد من الشركات إلى إيداع أموالها خارج السودان واتجاه المواطنين نحو تحويل اموالهم الى الدولار خوفا من تآكلها وهذا لا شك شكل ضغطاً على طلب الدولار، ويعتبر هذا الوضع ايضا احد اسباب هروب رؤوس الأموال المحلية إلى الخارج، واحجام المستثمرين عن الاستثمار في السودان.
          لا شك أن رؤوس الأموال الأجنبية إذا ما استغلت استغلالا اقتصاديا جيدا في مشاريع التنمية والصناعة سوف تؤدي إلى زيادة الناتج القومي وارتفاع مستويات الدخل وبالتالي ارتفاع معدلات الادخار وذلك نتيجة لسد النقص في الموارد المالية اللازمة لتمويل المشاريع الاستثمارية التنموية؛ اما اذا استغلت هذه الاموال في الاستهلاك والانفاق الجاري وسد عجز الموازنة والاستيراد غير المرشد فلن نجنى سوى مزيدا ً من العجز الاقتصادي والاضطراب السياسي.

أثر خفض قيمة الجنيه على النمو الاقتصادي

د. عمر محجوب محمد الحسين https://sudanile.com/%D8%A3%D8%AB%D8%B1-%D8%AE%D9%81%D8%B6-%D9%82%D9%8A%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D9%8A%...